فصل في القرآن وذكر الخلاف فيه
ووجه اتصاله بباب العدل هو ، أن القرآن فعل من أفعال الله يصح أن يقع على وجه فيقبح ، وعلى وجه آخر فيحسن وباب العدل كلام في أفعاله ، وما يجوز أن يفعله وما لا يجوز.
وأيضا ، فإنه له بما كنا فيه من قبل اتصالا شديدا ، فإنه من إحدى نعم الله بل من أعظم النعم ، فإليه يرجع الحلال والحرام ، وبه تعرف الشرائع والأحكام ، وقد اختلف الناس فيه اختلافا كبيرا.
فقد ذهبت الحشوية النوابت من الحنابلة إلى أن هذا القرآن المتلو في المحاريب والمكتوب في المصاحف غير مخلوق ولا محدث ، بل قديم مع الله تعالى.
وذهبت الكلابية إلى أن كلام الله تعالى هو معنى أزلي قائم بذاته تعالى ، مع أنه شيء واحد توراة وإنجيل وزبور وفرقان ، وأن هذا الذي نسمعه ونتلوه حكاية كلام الله تعالى ، وفرقوا بين الشاهد والغائب ، وما دروا أن ذلك يوجب عليهم قدم الحكاية أو حدوث المحكى ، فإن الحكاية والمحكى لا بد أن يكونا من جنس واحد ، ولا يجوز افتراقهما في قدم ولا حدوث.
وقالوا : إن كلامنا هو الذي نسمعه ، وليس هو بمعنى قائم بذات المتكلم ككلام الله تعالى ، وإلى هذا المذهب ذهب الأشعري ، إلا أنه لما رأى أن قوله أن الذي نتلوه في المحاريب ونكتبه في المصاحف حكاية كلام الله تعالى يوجب أن يكون كلامه أيضا محدثا وأصواتا وحروفا ، لأن الحكاية يجب أن تكون من جنس المحكى ، قال : إن هذا المسموع هو عبارة كلام الله تعالى ، ولم يدر أن العبارة يجب أن تكون من جنس المعبر عنه ، إلا أنه قد جرى على القياس فقال : الكلام معنى قائم بذات المتكلم من دون فرق بين الشاهد والغائب ، فلقد أصاب في خطئه هذا.
وأما مذهبنا في ذلك ، فهو أن القرآن كلام الله تعالى ووحيه ، وهو مخلوق محدث ، أنزله الله على نبيه ليكون علما ودالا على نبوته ، وجعله دلالة لنا على الأحكام لنرجع إليه في الحلال والحرام ، واستوجب منا بذلك الحمد والشكر والتحميد والتقديس. وإذن هو الذي نسمعه اليوم ونتلوه ، وإن لم يكن محدثا من جهة الله تعالى فهو مضاف إليه على الحقيقة ، كما يضاف ما ننشده اليوم من قصيدة امرئ القيس على الحقيقة ، وإن لم يكن محدثا لها من جهته الآن.