المتكلم هو فاعل الكلام
والذي يدل على صحة ذلك ، هو أن أهل اللغة لما اعتقدوا تعلق الكلام بفاعله سموه متكلما ، ومتى لم يعتقدوا ذلك فيه لم يسموه به. وعلى هذا فإنهم أضافوا كلام المصروع إلى الجني ، فقالوا : إن الجني يتكلم على لسانه ، لما رأوا أن ذلك الكلام لا يتعلق به تعلق الفعل بفاعله ، فلو جاز أن يقال في المتكلم إنه ليس هو فاعل الكلام ، لجاز مثله في الشاتم والضارب والكاسر وغير ذلك ، فالطريقة في الجميع واحدة ، وإن كان البعض أظهر من البعض ، وقد عرف خلافه.
ويدل على ذلك أيضا ، هو أن المتكلم لا يخلو ، إما أن يكون متكلما لأنه فعل الكلام ، أو لأن الكلام أوجب له حالة أو صفة ، أو لأن الكلام حله أو بعضه ، أو لأن الكلام أثر في آلته على معنى أنه نفى الخرس والسكوت عنه ، أو لأنه موجود به ، والأقسام كلها باطلة ، فلم يبق إلا أن يكون المتكلم إنما كان متكلما لأنه فاعل الكلام على ما نقوله.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المتكلم متكلما لأن الكلام أوجب له حالة أو صفة؟ قلنا : إنه لا حال للمتكلم بكونه متكلما ، إذ لا طريق إليه ، وإثبات ما لا طريق إليه بفتح باب الجهالات على ما مر.
فإن قيل : إن هاهنا طريقا ، فإن الواحد منا يفصل بين كونه متكلما وبين أن لا يكون متكلما ، وأجلى الأمور ما يجده الإنسان من نفسه.
قلنا إن هذه التفرقة إذا أمكن أن نرجع بها إلى أنه يفعل في إحدى الحالتين الكلام ولا يفعل في الحالة الثانية ، لم يمكن أن نرجع به إلى ما ذكرتموه.
ويدل على ذلك أيضا ، هو أنه لو كان للمتكلم بكونه متكلما حال وصفة ، لكان يجب أن يسبق العلم بتلك الحال قبل العلم بالكلام ، كما في كونه عالما ، فإن العالم لما كان له بكونه عالما حال ، يسبق علمنا بكونه عالما على العلم بما يوجبه وهو العلم. وكذلك في المتحرك ، فإن المتحرك لما كان له بكونه متحركا حالة وصفه ، حصل العلم بكونه متحركا قبل العلم بالحركة ، كذلك يجب مثله في مسألتنا ، فكان يجب أن نعلم كون المرء متكلما وإن لم يخطر ببالنا الكلام ، والمعلوم خلافه ، فإنا ما لم نعلم تعلق الكلام به تعلق الفعل بفاعله لم نعلم كونه متكلما.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المتكلم متكلما لأن الكلام حله أو حل بعضه؟