يزيد هذه الجملة وضوحا ، أن العقلاء يستحسنون ذم من لم يرد الوديعة مع الإمكان وزوال الأعذار ، إذا علموا ذلك من حاله ، وإن لم يخطر ببالهم شيء آخر ، فلو لا أن الإخلال بالواجب جهة في استحقاق الذم ، وإلا كان لا يجوز ذلك ، لأن العلم بحسن ذمه يتفرع على العلم بما يستحق عليه الذم وهم لا يعلمون شيئا آخر سوى إخلاله بما وجب عليه من إزاحة العلة والتمكين ، صح ما اخترناه من المذهب.
وأما أبو علي فقد بينا مذهبه ذلك على أصل قد حكيناه عنه غير مرة ، وهو استحالة خلو القادر بالقدرة عن الأخذ والترك ، وذلك أصل قد ثبت عندنا فساده ، وأشرنا إلى طريقة القول في إفساده.
حيث بينا أن أحدنا مع علمه بتصرفات الناس في الأسواق قد لا يريدها ولا يكرهها ، فقد خلا من الأمرين جميعا ، ففسد أصله هذا ، وفساد الأصل يؤذن بفساد ما بنى عليه ، لأن فساد الأصل يؤذن بفساد الفرع لا محالة.
كيف يكون الحال لو لم يثب الله من استحق الثواب :
وكذلك فقد ذكرنا أن القديم تعالى إن لم يثب من استحق الثواب ، كيف يكون الحال.
ومن خالف في ذلك فقد تعلق بوجوه :
منها ، هو أن مذهبكم هذا يضارع مذهب جهم ، حيث جوّز أن يعاقب العبد على ما لا يتعلق به أصلا ، بل حالكم أسوأ من حاله لأن أكثر ما جوّزه أن يعاقب العبد على ما لا يتعلق به ، فأما أن لا يكون هناك فعل ينصرف إليه استحقاق الذم والعقاب فلا ، وأنتم قد جوزتم أن يذم ويعاقب وإن لم يكن هناك فعل ولا كف ولا أخذ ولا ترك ولا صغيرة ولا كبيرة ، وذلك أدخل في الجهالة من قول جهم.
وجوابنا ، أنك إن أردت بما أوردته أنا نجوز ذم من يستحق الذم أصلا فليس كذلك ، إن إخلاله بالواجب جهة استحقاق الذم معقوله على ما بيناه ، وإن أردت به أنا جوزنا أن يذم المرء ويعاقب لا على فعل فذلك مجاب إليه وهو الذي اتخذناه مذهبا فما الذي يبطله ، وهل هذه الطريقة إلا الطريقة التشنيع الذي لا يعجز عنه عاجز؟
ثم الفرق بيننا وبينه هو أنه جوز أن يعاقب المرء على ما لا يتعلق به ، ولا بدواعيه البتة ، بل على ما لا يقدر عليه ولا يطيقه أصلا ، وليس كذلك حالنا ، فإنا إنما