اعلم أن الشفاعة في أصل اللغة مأخوذة من الشفع الذي هو نقيض الوتر ، فكأن صاحب الحاجة بالشفيع صار شفعا.
وأما في الاصطلاح ، فهو مسألة الغير أن ينفع غيره أو أن يدفع عنه مضرة ، ولا بد من شافع ومشفوع له ، ومشفوع فيه ومشفوع إليه. وقد سأل رحمهالله نفسه ، إن المشفوع إليه إذا أجاب الشفيع هل يكون مكرما له أم لا؟ والأصل فيه ، أنه يكون مكرما له ، لأنه لا بد من أن يكون قد قصد بالإجابة إكرامه ، وإلا لم يكن إيصاله تلك المنفعة إلى الغير ودفعه ذلك الضرر بشفاعته.
إذا ثبت هذا ، فالذي يدل على ما ذكرناه ، هو أن شفاعة الفساق الذين ماتوا على الفسوق ولم يتوبوا يتنزل منزلة الشفاعة لمن قتل ولد الغير وترصد للآخر حتى يقتله ، فكما أن ذلك يقبح فكذلك هاهنا هذا ، الذي ذكره قاضي القضاة.
والذي يذهب إليه أبو هاشم ، هو أنه تحسن الشفاعة مع إصرار المذنب على الذنب كما في العفو ، ولعل الصحيح في هذا الباب ما اختاره قاضي القضاة.
وأحد ما يدل على ذلك أيضا ، أن الرسول إذا شفع لصاحب الكبيرة فلا يخلو ، إما أن يشفع أو لا ، فإن لم يشفع لم يجز لأنه يقدح بإكرامه ، وإن شفع فيه لم يجز أيضا لأنا قد دللنا على أن إثابة من لا يستحق الثواب قبيح ، وأن المكلف لا يدخل الجنة تفضلا.
وأيضا فقد دلت الدلالة على أن العقوبة تستحق على طريق الدوام ، فكيف يخرج الفاسق من النار بشفاعة النبي عليهالسلام والحال ما تقدم ، ومما يدل على ذلك قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) الآية ، وقوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) فالله تعالى نفى أن يكون للظالمين شفيع البتة ، فلو كان النبي شفيعا للظلمة لكان لا أجل وأعظم منه.
ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى : (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) وقوله : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى).
فائدة الشفاعة وموضوعها
وقد أورد رحمهالله بعد هذه الجملة الكلام في فائدة الشفاعة وموضوعها.