الإماتة والإحياء مرتين إلا وفي إحدى المرتين إما التعذيب في القبر أو التبشير على ما نقوله.
ومتى قالوا : إن إحدى الإماتتين إنما هو خلق الله تعالى الخلق من نطفة هي موات ، قلنا : إن الإماتة في الحقيقة إنما هو إبطال الحياة وإزالتها وتفريق البنية التي تحتاج هي في الوجود إليها ، وذلك لا يتصور في النطفة التي لم تكن حية أصلا. وبعد فقد أثبت الله تعالى الإماتة مرتين ، وعلى هذا الذي ذكرتموه يقتضي أن يكون ذلك مرارا ، ولقد قال الله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢)) الآية ، ولم يصر حيا بعد ذلك بل صار علقة ، على ما قال تعالى : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) الآية.
ومما يدل على ذلك ما روي أن النبي صلىاللهعليهوسلم مر بقبرين فقال : «إنهما ليعذبان وما يعذبان من كبير كان أحدهما يمشي بالنميمة والآخر كان لا يستنزه من البول» وروي لا يستتر.
فإن قالوا : كيف يصح الاستدلال بهذا الخبر مع أنه يقتضي تعذيب عبده على الصغائر التي من شأنها أن تقع مغفورة؟ قلنا : المراد بقوله وما يعذبان من كبير عندهما ، لأن المعصية في نفسها غير كبيرة ، فهذا هو الكلام في ثبوت عذاب القبر.
كيفية ثبوته :
وأما الكلام في كيفية ثبوته ، فاعلم أنه تعالى إذا أراد تعذيبهم ، فإنه لا بد من أن يحييهم لأن تعذيب الجماد محال لا يتصور ، ولا يعترض ذلك ما روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم في الميت أنه يسمع خفق النعال ، وأنه ليعذب على بكاء أهله عليه ، لأن الإدراك يترتب على الحياة ، وتعذيب القبر بذنب الغير ظلم ، والله تعالى لا يفعل ذلك ، وتفسير قوله صلىاللهعليهوسلم : أن الميت ليعذب على بكاء أهله ، أي على الوصية بذلك ، فكان من عادة القوم الوصية بالبكاء والنوح عليهم.
وكما لا بد من الإحياء ليصح التعذيب ، فلا بد من أن يخلق الله فيهم العقل ليحسن التعذيب ، وإلا اعتقد المعاقب المعذب أنه مظلوم ، ولهذا المعنى قلنا : إن أهل النار لا بد من أن يكونوا عقلاء ، هذا هو الذي نعلمه من جهة العقل.
فأما الكلام في أن ذلك كيف يكون ، وأنه تعالى يبعث إليه ملكين يقال لأحدهما