منكر وللآخر نكير فيسألانه ثم يعذبانه أو يبشرانه حسب ما وردت به الأخبار ، فإن ذلك مما لا يهتدى إليه من جهة العقل ، وإنما الطريق إليه السمع.
وأما الوقت الذي يثبت فيه التعذيب ، وتعيين ذلك ، فما لا طريق إليه.
ومن الجائز أن يكون بين النفختين على ما قال الله تعالى : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١)) والبرزخ في اللغة إنما هو الأمر الهائل العظيم ، ولا معنى له إلا العذاب.
فائدته :
وأما فائدة عذاب القبر وكونه مصلحة للمكلفين ، فإنهم متى علموا أنهم إن أقدموا على المقبحات وأخلوا بالواجبات عذبوا في القبر ثم بعد ذلك في نار جهنم ، كان ذلك صارفا لهم عن القبائح داعيا إلى الواجبات ، وما هذا سبيله وكان في مقدور الله تعالى فلا بد من أن يفعله ، وكما يكون العلم باستحقاق ذلك داعيا ولطفا للمعذب ، فإن تعذيبه يكون لطفا للملك الموكل إليه ذلك ، فهذه فائدته.
وأما القوم الذين دفعوا عذاب القبر وأنكروه ، فقالوا : لو كان له أصل لكان يجب في النّباش أن يرى العقوبة أو المثوبة للمعاقب والمثاب ، فكان يشاهد عليه أثر الضرب وغيره ، وفي علمنا بخلافه دليل على أن ذلك مما لا أصل له. قالوا : ومما يؤكد هذا الكلام أنه لو كان كذلك لكان يجب في المصلوب والميت الذي لم يدفن أن يسمع أنينه وأن يشاهد اضطرابه كل واحد ، والمعلوم أنه لا يرى مضطربا اضطراب المعاقب ، ولا يسمع له أنين البتة ، فكيف يكون معذبا والحال ما قلناه؟.
والجواب ، أن أكثر ما في هذا أن النّباش وغيره لا يرون أثر العقوبة على الميت ، ومن المجوز أن لا يعذبه الله تعالى في هذه الحالات التي يطلع عليها النباش أو غيره ، أو يعذبه على وجه يستتر عنهم لوجه من المصلحة يرى في ذلك ، وعلى أنا قد ذكرنا أن القوى في هذا الباب أنه تعالى يؤخر ذلك إلى ما بين النفختين على ما دل عليه كلامه تعالى.
ومما يذكرونه في هذا الباب ، أن فيما تدعونه من أنه تعالى يبعث ملكين أحدهما منكر والآخر نكير حتى يسألا صاحب القبر ثم يعذبانه أو يبشرانه تسمية ملائكة الله تعالى بما لا يليق بهم وبما يقتضي استحقاق الذم ، وذلك مما لا وجه له.