الأصل الخامس
وهو الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وكان من حقنا أن نذكر حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، غير أنا قد قدمناها في أول الكتاب فلا نعيدها هاهنا.
وجملة ما نقوله في هذا الموضع ، أنه لا خلاف بين الأمة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إلا ما يحكى عن شرذمة من الإمامية لا يقع بهم وبكلامهم اعتداد. والذي يدل على ذلك بعد الإجماع قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١٨٠] الآية وقوله تعالى حاكيا عن لقمان : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) ومما يدل على ذلك مما روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «ليس لعين ترى الله يعصي فتطرف حتى تغير أو تنتقل».
والغرض بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن لا يضيع المعروف ولا يقع المنكر ، فمتى حصل هذا الغرض بالأمر السهل لا يجوز العدول عنه إلى الأمر الصعب ، وهذا مقرر في العقول ، وإلى هذا أشار تعالى بقوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) ، الآية ، فبدأ أولا بإصلاح ذات البين ، ثم بالمقاتلة إن لم يرتفع الغرض إلا بها حسب ما ذكرناه.
ولا خلاف في هذه الجملة بين شيخنا أبي علي وأبي هاشم ، وإنما الخلاف بينهما في أن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعلم عقلا أو شرعا؟.
فذهب أبو علي إلى أن ذلك يعلم عقلا.
وقال أبو هاشم : بل لا يعلم عقلا إلا في موضع واحد ، وهو أن يرى أحدنا غيره يظلم أحدا فيلحقه بذلك غم ، فإنه يجب عليه النهي ودفعه دفعا لذلك الضرر الذي لحقه من الغم عن نفسه ، فأما فيما عدا هذا الموضع فلا يجب إلا شرعا ، وهو الصحيح من المذهب.
والذي يدل على أن ذلك مما لا سبيل إلى وجوبه من جهة العقل إلا في الموضع