وعند هذا : فيجب حمل الآية على الفسق الكامل ، جمعا بينه ، وبين ما ذكرناه من الأدلة ، ويكون تقدير الآية : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (١) بالفسق الكامل ، وما ذكروه من الخبر ؛ فقد قال علماء الأخبار : إنما ورد فى المنافقين فى زمن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ويجب الحمل عليه جمعا بينه ، وبين ما ذكرناه من الأدلّة.
قولهم : إنّ من وقر الإيمان فى صدره ، لا يكون منهمكا على فعل المعاصى ـ ليس كذلك ؛ فإنّه لا يبعد ممّن وقر الإيمان فى صدره ، وعلم أنّ عذاب لحظة من الآخرة يزيد على نعيم الدنيا ، أن يقدم على المعصية اغترارا منه بما يتوقعه من كرم ربه ، وعفوه وصفحه عنه وإقلاعه عن المعصية بالتوبة ، والإنابة إلى الله ـ تعالى ـ على ما هو معلوم من حال كل عاص من المؤمنين ؛ ويدل عليه : فعل الصغائر ؛ فإنها وان دلت على مخالفة أمر الله ـ تعالى ـ ونهيه ، وتقديم اللّذات العاجلة على طاعة الله تعالى ، فلا تدل على أنّ فاعلها ليس بمؤمن بالإجماع ، وليس ذلك إلا لما ذكرناه فى فعل الكبيرة ،
كيف ..؟ وأن اسم النفاق مخصوص لمستبطن الكفر ، ومظهر ضدّه باجماع المسلمين ، وهو مشتق من النّافقاء (٢) ، وهو جحر من جحر اليربوع فى الأرض ، قد أعدّه للخروج منه إذا أتى عليه من الحجرة الظّاهرة ، ومرتكب الكبيرة ، غير مستبطن للكفر ولا معتقد لنقيض الحقّ ؛ فلا يكون منافقا.
فإن قيل : قد روى عن عمر ـ رضى الله عنه ـ انه سأل حذيفة بن اليمان (٣) لما عرفه رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ المنافقين وأسماءهم ، وقال له : هل عدنى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فى المنافقين ولو كان النفاق عبارة عن استبطان الكفر ؛ فعمر ـ رضى الله عنه ـ كان يعلم من نفسه أنّه لم يكن مستبطنا للكفر ، فكيف تشكّك فى نفسه؟
قلنا : إنما سأل عن ذلك نظرا إلى المآل ، وخاتمة العمل علي ما جرت به العادة من وجل الأولياء / والصالحين من سوء العاقبة ، وما جرى به القلم فى السابقة ، امّا أن يكون ذلك لتشككه فى حال نفسه ، فى الحالة الرّاهنة ؛ فلا.
__________________
(١) سورة التوبة ٩ / ٦٧.
(٢) (المنافق) من يخفى الكفر ، ويظهر الإيمان ومن يضمر العداوة ويظهر الصداقة. (النافقاء) احدى جحرة اليربوع يكتمها ، ويظهر غيرها. وهو أصل النفاق. [المعجم الوسيط ـ باب النون]
(٣) هو أبو حذيفة بن حسل بن جابر العبسى ـ كان صاحب سرّ رسول الله فى المنافقين أعلمه بهم ، ولم يعرفهم لأحد غيره توفى سنة ٣٦ ه (تهذيب التهذيب لابن حجر ٢ / ٢١٩)