وقوله من نفس السورة في شأن أصحاب اليمين (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) [الواقعة : ٣٩ ، ٤٠] فلما ذكر أصحاب اليمين جعلهم ثلتين ، ثلة من أول هذه الأمة وثلة من آخرها. وعند ما ذكر السابقين جعلهم ثلة من الأولين وقليلا من الآخرين. وليس ذلك إلا لأن التابع لهؤلاء السابقين في آخر الزمن يكونون أهل قلة وغربة كما قال صلوات الله وسلامه عليه فيما رواه مسلم عن أبي هريرة «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ، فطوبى للغرباء».
ووردت روايات عدة في تفسير هؤلاء الغرباء ، ففي بعضها أنهم النزاع من القبائل. وفي أخرى أنهم الذين يصلحون إذا فسد الناس. وفي رواية أنهم الذين يفرون بدينهم من الفتن. وفي أخرى أنهم الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
فهذه الغربة المذكورة في هذا الحديث ليست غربة عن الأهل والأوطان ولكنها غربة المتمسك بدينه العاض عليه بناجذيه بين جنود الشيطان ، فلذلك شبههم الرسول صلىاللهعليهوسلم في غربتيه الأولى والثانية في قلة الأعوان والأنصار. يقول العلامة ابن رجب الحنبلي في تفسيره لهذا الحديث :
قوله : «بدأ الإسلام غريبا» يريد به أن الناس كانوا قبل مبعثه على ضلالة عامة كما قال النبي صلىاللهعليهوسلم في حديث عياض بن حمار الذي خرجه مسلم «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم ـ عربهم وعجمهم ـ إلا بقايا من أهل الكتاب» ، فلما بعث النبي صلىاللهعليهوسلم ودعا إلى الإسلام لم يستجب له في أول الأمر إلا الواحد بعد الواحد من كل قبيلة ، وكان المستجيب له خائفا من عشيرته وقبيلته يؤذى غاية الأذى وينال منه وهو صابر على ذلك في الله عزوجل ، وكان المسلمون إذ ذاك مستضعفين يشردون كل مشرد ويهربون بدينهم إلى البلاد النائية ، كما هاجروا إلى الحبشة مرتين ، ثم هاجروا إلى المدينة ، وكان منهم من يعذب في الله ومنهم من يقتل ، فكان الداخلون في الإسلام حينئذ غرباء ، ثم ظهر الإسلام بعد الهجرة إلى المدينة وعز وصار أهله ظاهرين كل الظهور ، ودخل الناس بعد ذلك