لم يكونوا يعرفونها قبل ذلك حتى يكون لهم ألفاظ تدل عليها بعينها ، أخذ من اللغة الالفاظ المناسبة لتلك بما تدل عليه من القدر المشترك بين تلك المعاني الغيبية ، والمعاني الشهودية التي كانوا يعرفونها ، وقرن بذلك من الاشارة ونحوها ما يعلم به حقيقة المراد ، كتعليم الصبي ، كما قال ربيعة ابن أبي عبد الرحمن (٤١) : الناس في حجور علمائهم كالصبيان في حجور آبائهم.
وأما ما يخبر به الرسول من الامور الغائبة ، فقد يكون مما أدركوا نظيره بحسهم وعقلهم ، كإخبارهم بأن الريح قد أهلكت عادا ، فان عادا من جنسهم والريح من جنس ريحهم ، وان كانت أشد. وكذلك غرق فرعون في البحر ، وكذا بقية الاخبار عن الامم الماضية. ولهذا كان الاخبار بذلك فيه عبرة لنا ، كما قال تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) يوسف : ١١١. وقد يكون الذي يخبر به الرسول ما لم يدركوا مثله الموافق له في الحقيقة من كل وجه لكن في مفرداته ما يشبه مفرداتهم من بعض الوجوه. كما اذا اخبرهم عن الامور الغيبية المتعلقة بالله واليوم الآخر ، فلا بد أن يعلموا معنى مشتركا وشبها بين مفردات تلك الالفاظ وبين مفردات ما علموه في الدنيا بحسهم وعقلهم. فاذا كان ذلك المعنى الذي في الدنيا لم يشهدوه بعد ، ويريد أن يجعلهم يشهدونه مشاهدة كاملة ليفهموا به القدر المشترك بينه وبين المعنى الغائب ، أشهدهم اياه ، وأشار لهم إليه ، وفعل قولا يكون حكاية له وشبها ، به يعلم المستمعون أن معرفتهم بالحقائق المشهودة هي الطريق التي يعرفون بها الامور الغائبة.
فينبغي أن يعرف هذه الدرجات : أولها : ادراك الانسان المعاني الحسية المشاهدة. وثانيها : عقله لمعانيها الكلية. وثالثها : تعريف الالفاظ الدالة على تلك المعاني الحسية والعقلية. فهذه المراتب الثلاث لا بد منها في كل خطاب. فاذا أخبرنا عن الامور الغائبة فلا بد من تعريفنا المعاني المشتركة بينها وبين الحقائق المشهودة والاشتباه الذي بينهما ، وذلك بتعريفنا الامور المشهودة. ثم إن كانت مثلها
__________________
(٤١) هو ربيعة بن فروخ المدني ابو عثمان امام حافظ فقيه مجتهد كان صاحب الفتوى في المدينة وبه تفقه الامام مالك ويلقب بربيعة الرأي.