يا أمير المؤمنين ، ليدع مطالبتي بنص التنزيل ، ويناظرني بغيره ، فان لم يدع قوله ويرجع عنه ، ويقر بخلق القرآن الساعة وإلا فدمي حلال. قال عبد العزيز : تسألني أم أسألك؟ فقال بشر : [اسأل] أنت ، وطمع فيّ فقلت له : يلزمك واحدة من ثلاث لا بد منها : إما أن تقول : ان الله خلق القرآن ، وهو عندي أنا كلامه ـ في نفسه ، أو خلقه قائما بذاته ونفسه ، أو خلقه في غيره؟ قال : أقول : خلقه كما خلق الاشياء كلها. وحاد عن الجواب. فقال المأمون : اشرح أنت هذه المسألة ، ودع بشرا فقد انقطع. فقال عبد العزيز : ان قال خلق كلامه في نفسه ، فهذا محال ، لأن الله لا يكون محلا للحوادث المخلوقة ، ولا يكون فيه شيء مخلوق وان قال خلقه في غيره فيلزم في النظر والقياس أن كل كلام خلقه الله في غيره فهو كلامه ، فهو محال أيضا ، لانه يلزم قائله أن يجعل كل كلام خلقه الله في غيره ـ هو كلام الله! وان قال خلقه قائما بنفسه وذاته ، فهذا محال : لا يكون الكلام الا من متكلم ، كما لا تكون الإرادة الا من مريد ، ولا العلم الا من عالم ، ولا يعقل كلام قائم بنفسه يتكلم بذاته. فلما استحال من هذه الجهات أن يكون مخلوقا ، علم أنه صفة لله. هذا مختصر من كلام الامام عبد العزيز في «الحيدة».
وعموم كل في كل موضع بحسبه ، ويعرف ذلك بالقرائن. ألا ترى الى قوله تعالى : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) الاحقاف : ٢٥ ، ومساكنهم شيء ، ولم تدخل في عموم كل شيء دمرته الريح؟ وذلك لان المراد تدمر كل شيء يقبل التدمير بالريح عادة وما يستحق التدمير. وكذا قوله تعالى حكاية عن بلقيس : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) النمل : ٢٣ ، المراد من كل شيء يحتاج إليه الملوك ، وهذا القيد يفهم من قرائن الكلام. اذ مراد الهدهد أنها ملكة كاملة في أمر الملك ، غير محتاجة الى ما يكمل به أمر ملكها ، ولهذا نظائر كثيرة.
والمراد من قوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) الرعد : ١٦ ، أي كل شيء مخلوق ، وكل موجود سوى الله فهو مخلوق ، فدخل في هذا العموم أفعال العباد حتما ، ولم يدخل في العموم الخالق تعالى ، وصفاته ليست غيره ، لأنه سبحانه وتعالى هو الموصوف بصفات الكمال ، وصفاته ملازمة لذاته المقدسة ، لا يتصور انفصال صفاته عنه ، كما تقدم الاشارة الى هذا المعنى عند قوله : ما زال قديما بصفاته قبل