فهو مقروء له متلوّ ، فإن كتبه فهو مكتوب له مرسوم. وهو حقيقة في هذه الوجوه كلها لا يصح نفيه. والمجاز يصح نفيه ، فلا يجوز أن يقال : ليس في المصحف كلام الله ، ولا : ما قرأ القارئ كلام الله ، وقد قال تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) التوبة : ٦. وهو لا يسمع كلام الله من الله ، وإنما يسمعه من مبلغه عن الله. والآية تدل على فساد قول من قال : إن المسموع عبارة عن كلام الله وليس هو كلام الله ، فإنه تعالى قال : (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) التوبة : ٦ ، ولم يقل حتى يسمع ما هو عبارة عن كلام الله. والاصل الحقيقة. ومن قال : إن المكتوب في المصاحف عبارة عن كلام الله ، أو حكاية كلام الله ، وليس فيها كلام الله ـ : فقد خالف الكتاب والسنة وسلف الأمة ، وكفى بذلك ضلالا.
وكلام الطحاوي رحمهالله يرد قول من قال : إنه معنى واحد لا يتصور سماعه منه ، وأن المسموع المنزّل المقروء والمكتوب ليس كلام الله ، وإنما هو عبارة عنه. فإن الطحاوي رحمهالله يقول : كلام الله منه بدا. وكذلك قال غيره من السلف ، ويقولون : منه بدا ، وإليه يعود. وإنما قالوا : منه بدا ، لأن الجهمية من المعتزلة وغيرهم كانوا يقولون إنه خلق الكلام في محل ، فبدا الكلام من ذلك المحل. فقال السلف : «منه بدا» أي هو المتكلم به ، فمنه بدا ، لا من بعض المخلوقات ، كما قال تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) الزمر : ١. (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) السجدة : ١٣. (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) النحل : ١٠٢. ومعنى قولهم : وإليه يعود ـ : يرفع من الصدور والمصاحف ، فلا يبقى في الصدور منه آية ولا في المصاحف. كما جاء ذلك في عدة آثار.
وقوله بلا كيفية : أي : لا تعرف كيفية تكلمه به قولا ليس بالمجاز ، وأنزله على رسوله وحيا ، أي : أنزله إليه على لسان الملك ، فسمعه الملك جبرائيل من الله ، وسمعه الرسول محمد صلىاللهعليهوسلم من الملك ، وقرأ على الناس. قال تعالى : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) الاسراء : ١٠٦. وقال تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٥. وفي ذلك إثبات صفة العلو لله تعالى.