وحقيقة الامر : أن قول القائل : نحمله على كذا ، أو : نتأوله بكذا ، إنما هو من باب دفع دلالة اللفظ عما وضع له ، فإن منازعه لما احتج عليه به ولم يمكنه دفع وروده ، دفع معناه ، وقال : أحمله على خلاف ظاهره.
فإن قيل : بل للحمل معنى آخر ، لم تذكروه ، وهو : أن اللفظ لما استحال أن يراد به حقيقته وظاهره ، ولا يمكن تعطيله ، استدللنا بوروده وعدم إرادة ظاهره على أن مجازه هو المراد ، فحملناه عليه دلالة لا ابتداء.
قيل : فهذا المعنى هو الإخبار عن المتكلم أنه أراده ، وهو إما صدق وإما كذب ، كما تقدم ، ومن الممتنع أن يريد خلاف حقيقته وظاهره ولا يبين للسامع المعنى الذي أراده ، بل يعرف بكلامه ما يؤكد إرادة الحقيقة. ونحن لا نمنع أن المتكلم قد يريد بكلامه خلاف ظاهره ، إذا قصد التعمية على السامع حيث يسوغ ذلك ، ولكن المنكر أن يريد بكلامه خلاف حقيقته وظاهره إذا قصد البيان والإيضاح وإفهام مراده! كيف والمتكلم يؤكد كلامه بما ينفي المجاز ، ويكرره غير مرة ، ويضرب له الامثال.
وقوله : فإنه ما سلم في دينه إلا من سلّم لله عزوجل ولرسوله صلىاللهعليهوسلم ، ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه. أي : سلم لنصوص الكتاب والسنة ، ولم يعترض عليها بالشكوك والشبه والتأويلات الفاسدة ، أو بقوله : العقل يشهد بضد ما دل عليه النقل! والعقل أصل النقل!! فإذا عارضه قدمنا العقل!! وهذا لا يكون قط. لكن إذا جاء ما يوهم مثل ذلك : فان كان النقل صحيحا فذلك الذي يدّعى أنه معقول إنما هو مجهول ، ولو حقق النظر لظهر ذلك. وإن كان النقل غير صحيح فلا يصلح للمعارضة ، فلا يتصور أن يتعارض عقل صريح ونقل صحيح أبدا. ويعارض كلام من يقول ذلك بنظيره ، فيقال : اذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل ، لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين ، ورفعهما رفع النقيضين ، وتقديم العقل ممتنع ، لأن العقل قد دل على صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرسول صلىاللهعليهوسلم ، فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل ، ولو أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضا للنقل ، لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الاشياء ، فكان تقديم العقل موجبا عدم تقديمه ، فلا يجوز تقديمه. وهذا بين