شهدتم بذلك على أنفسكم ، فإن شهادة المرء على نفسه هي إقراره بالشيء ليس إلا ، قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) النساء : ١٣٥. وليس المراد أن يقول : أشهد على نفسي بكذا ، بل من أقرّ بشيء فقد شهد على نفسه به ، فلم عدلتم عن هذه المعرفة والإقرار الذي شهدتم به على أنفسكم الى الشرك؟ بل عدلتم عن المعلوم المتيقن الى ما لا يعلم له حقيقة ، تقليدا لمن لا حجة معه ، بخلاف اتباعهم في العادات الدنيوية ، فإن تلك لم يكن عندكم ما يعلم به فسادها ، وفيه مصلحة لكم ، بخلاف الشرك ، فإنه كان عندكم من المعرفة والشهادة على أنفسكم ما يبين فساده وعدو لكم فيه عن الصواب.
فإن الدين الذي يأخذه الصبي عن أبويه هو : دين التربية والعادة ، وهو لأجل مصلحة الدنيا ، فإن الطفل لا بدّ له من كافل ، وأحقّ الناس به أبواه ، ولهذا جاءت الشريعة بأن الطفل مع (٢٣٥) أبويه على دينهما في أحكام الدنيا الظاهرة ، وهذا الدين لا يعاقبه الله عليه ـ على الصحيح ـ حتى يبلغ ويعقل وتقوم عليه الحجة ، وحينئذ فعليه أن يتبع : دين العلم والعقل ، وهو الذي يعلم بعقله هو أنه دين صحيح ، فإن كان آباؤه مهتدين ، كيوسف الصديق مع آبائه ، قال : (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) يوسف : ٣٨ ، وقال ليعقوب بنوه : (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) البقرة : ١٣٣ ، وان كان الآباء مخالفين الرسل ، كان عليه أن يتبع الرسل ، كما قال تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً ، وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) العنكبوت : ٨ ، الآية. (٢٣٦).
فمن اتبع دين آبائه بغير بصيرة وعلم ، بل يعدل عن الحق المعلوم إليه ، فهذا اتبع هواه ، كما قال تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ ، قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا ، أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) البقرة : ١٧٠.
وهذه حال كثير من الناس من الذين ولدوا على الإسلام ، يتبع أحدهم أباه فيما كان عليه من اعتقاد ومذهب ، وإن كان خطأ ليس هو فيه على بصيرة ، بل هو
__________________
(٢٣٥) في الاصل : على.
(٢٣٦) وتمامها : (.. إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).