سبحانه بعض المفاسد التي تترتب على خروجهم مع رسوله ، فقال : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) التوبة : ٤٧ ، أي فسادا وشرّا ، (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) التوبة : ٤٧ ، أي سعوا بينكم بالفساد والشرّ ، (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ ، وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) التوبة : ٤٧ ، أي قابلون منهم (٢٥٥) مستجيبون لهم ، فيتولد من سعي هؤلاء وقبول هؤلاء من الشرّ ما هو أعظم من مصلحة خروجهم ، فاقتضت الحكمة والرحمة أن أقعدهم عنه. فاجعل هذا المثال أصلا ، وقس عليه.
وأما الوجه الثاني ، وهو الذي من جهة العبد : فهو أيضا ممكن ، بل واقع. فإن العبد يسخط الفسوق والمعاصي ويكرهها ، من حيث هي فعل العبد ، واقعة بكسبه وإرادته واختياره ، ويرضى بعلم الله وكتابه ومشيئته وإرادته وأمره الكوني ، فيرضى بما منّ الله ويسخط ما هو منه. فهذا مسلك طائفة من أهل العرفان. وطائفة أخرى كرهتها مطلقا ، وقولهم يرجع إلى هذا القول ، لأن إطلاقهم الكراهة لا يريدون به شموله لعلم الرب وكتابه (٢٥٦) ومشيئته. وسر المسألة : أن الذي الى الرب منها غير مكروه ، والذي إلى العبد مكروه.
فإن قيل : ليس إلى العبد شيء منها. قيل : هذا هو الجبر الباطل الذي لا يمكن صاحبه التخلص من هذا المقام الضيق ، والقدري المنكر أقرب إلى التخلص منه من الجبري. وأهل السّنة ، المتوسطون بين القدرية والجبرية أسعد بالتخلص من الفريقين.
فإن قيل : كيف يتأتّى الندم والتوبة مع شهود الحكمة في التقدير ، ومع شهود القيّومية والمشيئة النافذة؟ قيل : هذا هو الذي أوقع من عميت بصيرته في شهود الأمر على غير ما هو عليه ، فرأى تلك الأفعال طاعات ، لموافقته فيها المشيئة والقدر ، وقال : إن عصيت أمره فقد أطعت إرادته! [و] في ذلك قيل :
أصبحت منفعلا لما يختاره |
|
منّي ، ففعلي كله طاعات! |
وهؤلاء أعمى الخلق بصائر ، وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية ، فإن الطاعة
__________________
(٢٥٥) في الاصل : قائلون معهم ، وهو غير سديد.
(٢٥٦) في الاصل : وكتابته.