هي موافقة الأمر الديني الشرعي ، لا موافقة القدر والمشيئة ، ولو كان موافقة القدر طاعة لكان إبليس من أعظم المطيعين له ، ولكان قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وقوم فرعون ـ كلهم مطيعين! وهذا غاية الجهل ، لكن إذا شهد العبد عجز نفسه ، ونفوذ الأقدار فيه ، وكمال فقره إلى ربه ، وعدم استغنائه عن عصمته وحفظه طرفة عين : كان بالله في هذه الحال لا بنفسه ، فوقوع الذنب منه لا يتأتى في هذه الحال البتة ، فإنّ عليه حصنا حصينا ، فبي يسمع ، وبي يبصر ، وبي يبطش ، وبي يمشي ، فلا يتصور منه الذنب في هذه الحال ، فإذا حجب عن هذا المشهد وبقي بنفسه ، استولى عليه حكم النفس ، فهنالك نصبت عليه الشباك والإشراك ، وأرسلت عليه الصيادون ، فاذا انقشع عنه ضباب ذلك الوجود الطبعي ، فهنالك يحضره الندم والتوبة والإنابة ، فإنه كان في المعصية محجوبا بنفسه عن ربه ، فلما فارق ذلك الوجود صار في وجود آخر ، فبقي بربه لا بنفسه.
فإن قيل : إذا كان الكفر بقضاء الله وقدره ، ونحن مأمورون أن نرضى بقضاء الله ، فكيف ننكره ونكرهه؟!
فالجواب : أن يقال أولا : نحن غير مأمورين بالرضى بكل ما يقضيه الله ويقدّره ، ولم يرد بذلك كتاب ولا سنة ، بل من المقضيّ ما يرضى به ، ومنه ما يسخط ويمقت ، كما لا يرضى به القاضي لأقضيته سبحانه ، بل من القضاء ما يسخط ، كما أن من الأعيان المقضية ما يغضب عليه ويمقت ويلعن ويذم.
ويقال ثانيا : هنا أمران : قضاء الله ، وهو فعل قائم بذات الله تعالى. ومفضي : وهو المفعول المنفصل عنه. فالقضاء كله خير وعدل وحكمة ، نرضى به كله. والمقضي قسمان : منه ما يرضى به ، ومنه ما لا يرضى به.
ويقال ثالثا : القضاء له وجهان : أحدهما : تعلقه بالرب تعالى ونسبته إليه ، فمن هذا الوجه يرضى به. والوجه الثاني : تعلقه بالعبد ونسبته إليه ، فمن هذا الوجه ينقسم إلى ما يرضى به والى ما لا يرضى به. مثال ذلك : قتل النفس ، له اعتباران : فمن حيث قدّره الله وقضاه وكتبه وشاءه وجعله أجلا للمقتول ونهاية لعمره ـ يرضى به ، ومن حيث صدر من القتل وباشره وكسبه وأقدم عليه باختياره وعصى الله بفعله ـ نسخطه ولا نرضى به.