العالم ولا خارجه ـ : يقتضي [نفي] وجوده بالكلية ، لأنه غير معقول : فيكون موجودا إما داخله وإما خارجه. والأول باطل فتعين الثاني ، فلزمت المباينة.
وأما ثبوته بالفطرة ، فإن الخلق جميعا بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم عند الدعاء ، ويقصدون جهة العلوّ بقلوبهم عند التضرع الى الله تعالى. وذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين ، وهو يتكلم في نفي صفة العلوّ ، ويقول : كان الله ولا عرش وهو الآن على ما كان! فقال الشيخ أبو جعفر : أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا؟ فإنه ما قال عارف قط : يا الله ، إلّا وجد في قلبه ضرورة طلب (٣٢٩) العلوّ ، لا يلتفت يمنة ولا يسرة ، فكيف ندفع بهذه الضرورة عن أنفسنا؟ قال : فلطم أبو المعالي على رأسه ونزل! وأظنه قال : وبكى! وقال : حيّرني الهمداني حيّرني! أراد الشيخ : أنّ هذا أمر فطر الله عليه عباده ، من غير أن يتلقّوه من المرسلين ، يجدون في قلوبهم طلبا ضروريّا يتوجه الى الله ويطلبه في العلو.
وقد اعترض على الدليل العقلي بإنكار بداهته ، لأنه أنكره جمهور العقلاء ، فلو كان بديهيّا لما كان مختلفا فيه بين العقلاء ، بل هو قضية وهمية خيالية؟ والجواب عن هذا الاعتراض مبسوط في موضعه ، ولكن أشير إليه هنا إشارة مختصرة ، وهو أن يقال : إن العقل ان قبل قولكم فهو لقولنا أقبل ، وان ردّ العقل قولنا فهو لقولكم أعظم فإن كان قولنا باطلا في العقل ، فقولكم أبطل ، وإن كان قولكم حقّا مقبولا في العقل ، فقولنا أولى أن يكون مقبولا في العقل. فإن دعوى الضرورة مشتركة ، فإنا نقول : نعلم بالضرورة بطلان قولكم ، وأنتم تقولون كذلك ، فإذا قلتم : تلك الضرورة التي تحكم ببطلان قولنا هي من حكم الوهم لا من حكم العقل؟ قابلناكم بنظير قولكم ، وعامة فطر الناس ، ـ ليسوا منكم ولا منّا ـ موافقون لنا (٣٣٠) على هذا ، فإن كان حكم فطر بني آدم مقبولا ترجحنا عليكم ، وإن كان
__________________
(٣٢٩) في الاصل : بطلب.
(٣٣٠) في الاصل : يوافقونا.