مردودا غير مقبول بطل قولكم بالكلية ، فإنكم إنما بنيتم قولكم على ما تدّعون أنه مقدمات معلومة بالفطرة الآدمية ، وبطلت عقلياتنا أيضا ، وكان السمع الذي جاءت به الأنبياء معنا لا معكم ، فنحن مختصون بالسمع دونكم ، والعقل مشترك بيننا وبينكم.
فإن قلتم : أكثر العقلاء يقولون بقولنا؟ قيل : ليس الأمر كذلك ، فإن الذين يصرحون [بأن] صانع العالم شيء موجود ليس فوق العالم ، وأنه لا مباين للعالم ولا حالّ في العالم ـ : طائفة من النظار ، وأول من عرف عنه ذلك في الإسلام جهم ابن صفوان وأتباعه.
واعترض على الدليل الفطري : أن ذلك إنما لكون السماء قبلة للدعاء ، كما أن الكعبة قبلة للصلاة ، (٣٣١) ، ثم هو منقوض بوضع الجبهة على الأرض مع أنه ليس في جهة الأرض؟ وأجيب على هذا الاعتراض من وجوه :
أحدها : أن قولكم : إن السماء قبلة للدعاء ـ لم يقله أحد من سلف الأمة ، ولا أنزل الله به من سلطان ، وهذا من الأمور الشرعية الدينية ، فلا يجوز أن يخفى على جميع سلف الأمة وعلمائها.
الثاني : أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة ، فإنه يستحبّ للداعي أن يستقبل القبلة ، وكان النبي صلىاللهعليهوسلم يستقبل القبلة في دعائه في مواطن كثيرة (٣٣٢) ، فمن قال إن للدعاء قبلة غير قبلة الصلاة ، أو أن له قبلتين : إحداهما الكعبة والأخرى السماء ـ : فقد ابتدع في الدين ، وخالف جماعة المسلمين.
الثالث : أن القبلة : هي ما يستقبله العابد بوجهه ، كما تستقبل الكعبة في الصلاة والدعاء ، والذكر والذبح ، وكما يوجه المحتضر والمدفون ، ولذلك سميت وجهة. والاستقبال خلاف الاستدبار ، فالاستقبال بالوجه ، والاستدبار بالدبر ،
__________________
(٣٣١) قال عفيفي : انظر ج ٢ / ٥١ من «مختصر الموصلي للصواعق المرسلة» لابن القيم.
(٣٣٢) صحيح ، والاحاديث في ذلك كثيرة ، منها حديث عبد الله بن زيد قال : «خرج النبي صلىاللهعليهوسلم الى هذا المصلى يستسقي ، فدعا واستسقى ، ثم استقبل القبلة» متفق عليه ، وترجم له البخاري في «الدعوات» ب «باب الدعاء مستقبل القبلة».