وأنكرت الجهمية حقيقة المحبة من الجانبين ، زعما منهم أن المحبة لا تكون إلا لمناسبة بين المحب والمحبوب ، وأنه لا مناسبة بين القديم والمحدث توجب المحبة! وكذلك أنكروا حقيقة التكليم ، كما تقدم ، وكان أول من ابتدع هذا في الإسلام هو الجعد بن درهم ، في أوائل المائة الثانية فضحّى به خالد بن عبد الله القسري أمير العراق والمشرق بواسط ، خطب الناس يوم الأضحى فقال : أيها الناس ضحوا ، تقبل الله ضحاياكم ، فإني (٣٣٣) مضحّ بالجعد بن درهم ، إنه زعم أن الله لم يتخذ ابراهيم خليلا ، ولم يكلم موسى تكليما ، ثم نزل فذبحه. وكان ذلك بفتوى أهل زمانه من علماء التابعين رضي الله عنهم ، فجزاه الله عن الدين وأهله خيرا. وأخذ هذا المذهب [عن الجعد] ـ الجهم بن صفوان ، فأظهره وناظر عليه ، وإليه أضيف قول : «الجهمية». فقتله مسلم بن أحوز أمير خراسان بها ، ثم انتقل ذلك الى المعتزلة أتباع عمرو بن عبيد ، وظهر قولهم في أثناء خلافة المأمون ، حتى امتحن أئمة الإسلام ، ودعوهم الى الموافقة لهم على ذلك. وأصل هذا مأخوذ عن المشركين والصابئة ، وهم ينكرون أن يكون ابراهيم خليلا وموسى كليما ، لأن الخلة هي كمال المحبة المستغرقة للمحب ، كما قيل :
قد تخللت مسلك الروح مني |
|
ولذا سمي الخليل خليلا |
ولكن محبته وخلته كما يليق به تعالى ، كسائر صفاته. ويشهد لما دلت عليه الآية الكريمة ما ثبت في «الصحيح» عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن صاحبكم خليل الله» (٣٣٤) ، يعني نفسه. وفي رواية : «إني أبرأ إلى كل خليل من خلته ، ولو كنت [متخذا] من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا». وفي رواية : «إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا». فبين صلىاللهعليهوسلم أنه لا يصلح له أن يتخذ من المخلوقين خليلا ، وأنه لو أمكن ذلك لكان أحق الناس به أبو بكر الصديق. مع أنه صلىاللهعليهوسلم قد وصف نفسه بأنه يحبّ أشخاصا ، كقوله لمعاذ : «والله إني
__________________
(٣٣٣) في الاصل : فانه.
(٣٣٤) صحيح ، وتقدم نحوه بالحديث (رقم ١٢٦).