والملائكة في هذا الوصف أكمل ، فإنهم لا يسأمون ولا يفترون ، فلا يلزم أن يكونوا خيرا من الملائكة. هذا على قراءة من قرأ «البريئة» ، بالهمز وعلى قراءة من قرأ بالياء ، إن قلنا : إنها مخففة من الهمزة ، وإن قلنا : إنها نسبة الى البرى وهو التراب ، كما قاله الفراء فيما نقله عنه الجوهري في «الصحاح» ـ : يكون المعنى : أنهم خير من خلق من التراب ، فلا عموم فيها ، إذ الغير من خلق من التراب. قال الأولون : إنما تكلمنا في [تفضيل] صالحي البشر إذا كملوا ، ووصلوا الى غايتهم وأقصى نهايتهم ، وذلك إنما يكون اذا دخلوا الجنة ، ونالوا الزلفى ، وسكنوا الدرجات العلى ، وحباهم الرحمن بمزيد قربه ، وتجلى لهم ليستمتعوا بالنظر الى وجهه الكريم. وقال الآخرون : الشأن في أنهم هل صاروا الى حالة يفوقون فيها الملائكة أو يساوونهم فيها؟ فإن كان قد ثبت لهم أنهم يصيرون الى حال يفوقون فيها الملائكة سلّم المدعى ، وإلا فلا.
ومما استدل به على تفضيل الملائكة على البشر : قوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) النساء : ١٧٢. وقد ثبت من طريق اللغة أن مثل هذا الكلام يدل على أن المعطوف أفضل من المعطوف عليه ، لأنه لا يجوز أن يقال : لن يستنكف الوزير أن يكون خادما للملك ، ولا الشرطي أو الحارس! وإنما يقال : لن يستنكف الشرطي أن يكون خادما للملك [ولا] الوزير. ففي مثل هذا التركيب يترقى من الأدنى إلى الأعلى ، فإذا ثبت تفضيلهم على عيسى عليهالسلام ثبت في حق غيره ، إذ (٣٥٣) لم يقل أحد إنهم أفضل من بعض الأنبياء دون بعض. أجاب الآخرون بأجوبة ، أحسنها ، أو من أحسنها : أنه لا نزاع في فضل قوة الملك وقدرته وشدته وعظم خلقه ، وفي العبودية خضوع وذل وانقياد ، وعيسى عليهالسلام لا يستنكف عنها ولا من هو أقدر منه وأقوى وأعظم خلقا ، ولا يلزم من مثل هذا التركيب الأفضلية المطلقة من كل وجه.
ومنه قوله تعالى : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) الانعام : ٥٠. ومثل هذا يقال بمعنى : إني لو قلت ذلك
__________________
(٣٥٣) في الاصل : اذا
.