ثم بعد هذا الاتفاق تبين أن أهل السنة اختلفوا خلافا لفظيا ، لا يترتب عليه فساد ، وهو : أنه هل يكون الكفر على مراتب ، كفرا دون كفر؟ كما اختلفوا : هل يكون الإيمان على مراتب ، إيمانا دون إيمان؟ وهذا اختلاف نشأ من اختلافهم في مسمى «الإيمان» : هل هو قول وعمل يزيد وينقص ، أم لا؟ بعد اتفاقهم على أن من سماه الله تعالى ورسوله كافرا نسميه كافرا ، إذ من الممتنع أن يسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافرا ، ويسمي رسوله من تقدم ذكره كافرا ـ ولا نطلق عليهما اسم الكفر. ولكن من قال : إن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ، قال : هو كفر عمليّ لا اعتقاديّ ، والكفر عنده على مراتب ، كفر دون كفر ، كالإيمان عنده. ومن قال : إن الإيمان هو التصديق ، ولا يدخل العمل في مسمى الإيمان ، والكفر هو الجحود ، ولا يزيدان ولا ينقصان ، قال : هو كفر مجازيّ غير حقيقي ، إذ الكفر الحقيقي هو الذي ينقل عن الملة. وكذلك يقول في تسمية بعض الأعمال بالإيمان ، كقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) البقرة : ١٤٣ ، أي صلاتكم الى بيت المقدس ، انها سميت إيمانا مجازا ، لتوقف صحتها عن الإيمان ، أو لدلالتها على الإيمان ، إذ هي دالة على كون مؤديها مؤمنا. ولهذا يحكم بإسلام الكافر إذا صلى صلاتنا. فليس بين فقهاء الأمة نزاع في أصحاب الذنوب ، إذا كانوا مقرّين باطنا وظاهرا بما جاء به الرسول وما تواتر عنهم أنهم من أهل الوعيد. ولكن الأقوال المنحرفة قول من يقول بتخليدهم في النار ، كالخوارج والمعتزلة. ولكن أردأ ما في ذلك التعصب على من يضادّهم ، وإلزامه لمن يخالف قوله بما لا يلزمه ، والتشنيع عليه! واذا كنا مأمورين بالعدل في مجادلة الكافرين ، وأن يجادلوا بالتي هي أحسن ، فكيف لا يعدل بعضنا على بعض في مثل هذا الخلاف؟! قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ ، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا ، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) المائدة ٨ ، الآية.
وهنا أمر يجب أن يتفطّن له ، وهو : أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرا ينقل عن الملة ، وقد يكون معصية : كبيرة أو صغيرة ، ويكون كفرا : إما مجازيّا ، وإما كفرا أصغر ، على القولين المذكورين. وذلك بحسب حال الحاكم : فإنه إن اعتقد أنّ الحكم بما أنزل الله غير واجب ، وأنه مخيّر فيه ، أو استهان به مع تيقنه أنه