وما أعجب ما أجاب به أبو المعين النسفي وغيره ، عن استدلالتهم بحديث شعب الإيمان المذكور ، وهو : أن الراوي قال : بضع وستون أو بضع وسبعون ، فقد شهد الراوي بفعله نفسه حيث شك فقال : بضع وستون أو بضع وسبعون ، ولا يظن برسول الله صلىاللهعليهوسلم الشك في ذلك! وأن هذا الحديث مخالف للكتاب.
فطعن فيه بغفلة الراوي ومخالفته الكتاب. فانظر الى هذا الطعن ما أعجبه! فإن تردد الراوي بين الستين والسبعين لا يلزم منه عدم ضبطه ، مع أن البخاري رحمهالله إنما رواه : بضع وستون من غير شك. (٤١٢). وأما الطعن بمخالفة الكتاب ، فأين في الكتاب ما يدل على خلافه؟! وإنما فيه ما يدل على وفاقه ، وإنما هذا الطعن من ثمرة شؤم التقليد والتعصب.
وقالوا أيضا : وهنا أصل آخر ، وهو : أن القول قسمان : قول القلب وهو الاعتقاد ، وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام. والعمل قسمان : عمل القلب ، وهو نيته وإخلاصه ، وعمل الجوارح. فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله ، وإذا زال تصديق القلب لم ينفع بقية الأخر (٤١٣) ، فإن تصديق القلب شرط في اعتبارها وكونها نافعة ، وإذا بقي تصديق القلب وزال الباقي فهذا موضع المعركة!!
ولا شك أنه يلزم من عدم طاعة الجوارح عدم طاعة القلب ، إذا لو أطاع القلب وانقاد ، لأطاعت الجوارح وانقادت ، ويلزم من عدم طاعة القلب وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة. قال صلىاللهعليهوسلم : «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد ، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ، ألا وهي القلب» (٤١٤). فمن صلح قلبه صلح جسده قطعا ، بخلاف العكس. وأما كونه يلزم من زوال جزئه
__________________
(٤١٢) قلت : ورواه مسلم بلفظ : «بضع وسبعون» كما تقدم (برقم ٤٠٦) ، وهو الأرجح عندي كما هو مبين في المجلد المشار إليه من «الصحيحة».
(٤١٣) في الاصل : الاجزاء.
(٤١٤) هو طرف من حديث متفق عليه عن النعمان بن بشير ، وهو مخرج في «غاية المرام في تخريج الحلال والحرام» برقم (٢٠).