المبارك : لو همّ رجل في البحر (٤٤٩) أن يكذب في الحديث ، لأصبح والناس يقولون : فلان كذاب. وخبر الواحد وإن كان يحتمل الصدق والكذب ـ ولكن التفريق بين صحيح الأخبار وسقيمها لا يناله أحد إلا بعد أن يكون معظم أوقاته مشتغلا بالحديث ، والبحث عن سير الرواة ، ليقف على أحوالهم وأقوالهم ، وشدة حذرهم من الطغيان والزلل ، وكانوا بحيث لو قتلوا لم يسامحوا أحدا في كلمة يتقولها على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ولا فعلوا هم بأنفسهم ذلك. وقد نقلوا هذا الدين إلينا كما نقل إليهم ، فهم ترك الإسلام (٤٥٠) وعصابة الإيمان ، وهم نقاد الأخبار ، وصيارفة الأحاديث. فإذا وقف المرء على هذا من شأنهم ، وعرف حالهم ، وخبر صدقهم وورعهم وأمانتهم ـ : ظهر له العلم فيما نقلوه ورووه. ومن له عقل ومعرفة يعلم أن أهل الحديث لهم [من] العلم بأحوال نبيهم وسيرته وأخباره ، ما ليس لغيرهم به شعور ، فضلا أن يكون معلوما لهم أو مظنونا. كما أن النجاة عندهم من أخبار سيبويه والخليل وأقوالهما ما ليس عند غيرهم ، وعند الأطباء من كلام بقراط وجالينوس ما ليس عند غيرهم ، وكل ذي صنعة هو أخبر بها من غيره ، فلو سألت البقال عن أمر العطر ، أو العطار عن البز ، ونحو ذلك!! لعد ذلك جهلا كبيرا.
ولكن النفاة قد جعلوا قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الشورى : ١١ ـ : مستندا لهم في رد الأحاديث الصحيحة ، فكلما جاءهم حديث يخالف قواعدهم وآراءهم ، وما وضعته (٤٥١). خواطرهم وأفكارهم ـ ردوه ب (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الشورى : ١١ ، تلبيسا منهم وتدليسا على من هو أعمى قلبا منهم ، وتحريفا لمعنى الآي عن مواضعه. ففهموا من أخبار الصفات ما لم يرده الله ولا رسوله ، ولا فهمه أحد من أئمة الإسلام ، أنه (٤٥٢) يقتضي إثباتها التمثيل بما (٤٥٣) للمخلوقين! ثم
__________________
(٤٤٩) في الاصل : السجن.
(٤٥٠) «ترك» بضم التاء المثناة والراء : جمع «تريكة» بفتح التاء وكسر الراء ، وهي بيضة الحديد للرأس. يريد أنهم دروع الاسلام وحفظته.
(٤٥١) في الاصل : وصفته.
(٤٥٢) في الاصل : انها.
(٤٥٣) في الاصل : بها.