الموت ، كالحجارة والحديد وما هو أكبر في صدوركم من ذلك؟! فإن قلتم : كنا خلقا على هذه الصفة التي لا تقبل البقاء ـ فما الذي يحول بين خالقكم ومنشئكم وبين إعادتكم خلقا جديدا؟! وللحجة تقدير آخر ، وهو : لو كنتم من حجارة أو حديد أو خلق أكبر منهما ، [فإنه] قادر على أن يفنيكم ويحيل ذواتكم ، وينقلها من حال الى حال ، ومن يقدر على التصرف في هذه الأجسام ، مع شدتها وصلابتها ، بالإفناء والإحالة ـ فما الذي يعجزه فيما دونها؟ ثم أخبر أنهم يسألون آخرا بقولهم : من يعيدنا اذا استحالت جسومنا وفنيت؟ فأجابهم بقوله : (قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) الاسراء : ٥١. فلما أخذتهم الحجة ، ولزمهم حكمها ، انتقلوا الى سؤال آخر يتعللون به بعلل المنقطع ، وهو قولهم : متى هو؟ فأجيبوا بقوله : (عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً).
ومن هذا قوله : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ، قالَ : مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) يس : ٧٨؟ الى آخر السورة. فلو رام أعلم البشر وأفصحهم وأقدرهم على البيان ، أن يأتي بأحسن من هذه الحجة ، أو بمثلها بألفاظ تشابه هذه الألفاظ في الإيجاز ووضح الأدلة وصحة البرهان لما قدر. فإنه سبحانه افتتح هذه الحجة بسؤال أورده ملحد ، اقتضى جوابا ، فكان في قوله : (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) يس : ٧٨ ما وفىّ بالجواب. وأقام الحجة وأزال الشبهة لما أراد سبحانه من تأكيد الحجة وزيادة تقريرها فقال : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) يس : ٧٩ ، فاحتج بالإبداء على الإعادة ، وبالنشأة الأولى على النشأة الأخرى. إذ كل عاقل يعلم ضروريّا أنّ من قدر على هذه قدر على هذه ، وأنه لو كان عاجزا عن الثانية لكان عن الأولى أعجز وأعجز. ولما كان الخلق يستلزم قدرة الخالق على المخلوق ، وعلمه بتفاصيل خلقه أتبع ذلك بقوله : (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) يس : ٧٩. فهو عليم بتفاصيل الخلق الأول وجزئياته ، ومواده وصورته ، فكذلك الثاني. فإذا كان تام العلم ، كامل القدرة ، كيف يتعذر عليه أن يحيي العظام وهي رميم؟ ثم أكد الأمر بحجة قاهرة ، وبرهان ظاهر ، يتضمن جوابا عن سؤال ملحد آخر يقول : العظام اذا صارت رميما عادت طبيعتها باردة يابسة ، والحياة لا بد أن تكون مادتها وحاملها طبيعة حارة رطبة بما يدل على أمر البعث ، ففيه الدليل والجواب معا ، فقال : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ