المضغة ، ثم شقّ سمعه وبصره ، وركّب فيه الحواسّ والقوى (٥٤٢) ، والعظام والمنافع ، والأعصاب والرباطات التي هي أشده ، وأحكم خلقه غاية الإحكام ، وأخرجه على هذا الشكل والصورة ، التي هي أتمّ الصور وأحسن الأشكال كيف يعجز عن إعادته وإنشائه مرة ثانية؟ أم كيف تقتضي حكمته وعنايته أن يتركه سدى؟ فلا يليق ذلك بحكمته ، ولا تعجز عنه قدرته. فانظر الى هذا الاحتجاج العجيب ، بالقول الوجيز ، الذي لا يكون أوجز منه ، والبيان الجليل ، الذي لا يتوهم أوضح منه ، ومأخذه لقريب ، الذي لا تقع الظنون على أقرب منه.
وكم في القرآن [من] مثل هذا الاحتجاج ، كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) الحج : ٥ ، الى أن قال : (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) الحج : ٧. وقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) المؤمنون : ١٢ ، الى أن قال : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) المؤمنون : ١٦. وذكر قصة أصحاب الكهف ، وكيف أبقاهم موتى ثلاثمائة سنة شمسية ، وهي ثلاثمائة وتسع سنين قمرية ، وقال فيها : (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها) الكهف : ٢١.
والقائلون بأن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة ، لهم في المعاد خبط واضطراب. وهم فيه على قولين : منهم من يقول : تعدم الجواهر ثم تعاد. ومنهم من يقول : تفرّق الأجزاء ثم تجمع. فأورد عليهم : الإنسان الذي يأكله حيوان ، وذلك الحيوان أكله إنسان ، فإن أعيدت تلك الأجزاء من هذا ، لم تعد من هذا؟ وأورد عليهم : أن الإنسان يتحلل دائما ، فما ذا الذي يعاد؟ أهو الذي كان وقت الموت؟ فإن قيل بذلك ، لزم أن يعاد على صورة ضعيفة ، وهو خلاف ما جاءت به النصوص ، وإن كان غير ذلك ، فليس بعض الأبدان بأولى من بعض! فادعى بعضهم أن في الإنسان أجزاء أصلية لا تتحلل ، ولا يكون فيها شيء من ذلك الحيوان الذي أكله الثاني! والعقلاء يعلمون أن بدن الإنسان نفسه كله يتحلل ،
__________________
(٥٤٢) قال عفيفي : انظر «مختصر الصواعق المرسلة» ١٠٤ ـ ١٠٦ ج ١.