وليس في حكمة أحكم الحاكمين ورحمة أرحم الراحمين أن يخلق خلقا يعذبهم أبد الآباد عذابا سرمدا لا نهاية له. وأما أنه يخلق خلقا ينعم عليهم ويحسن إليهم نعيما سرمدا ، فمن مقتضى الحكمة. والإحسان مراد لذاته ، والانتقام مراد بالعرض. قالوا : وما ورد من الخلود فيها ، والتأبيد ، وعدم الخروج ، وأن عذابها مقيم ، وأنه غرام ـ : كله حق مسلّم ، لا نزاع فيه ، وذلك يقتضي الخلود في دار العذاب ما دامت باقية ، وإنما يخرج منها في حال بقائها أهل التوحيد. ففرق بين من يخرج من الحبس وهو حبس على حاله ، وبين من يبطل حبسه بخراب الحبس وانتقاضه.
ومن أدلة القائلين ببقائها وعدم فنائها : قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) المائدة : ٣٧ (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) الزخرف : ٧٥. (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) النبأ : ٣٠ (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) البينة : ٨. (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) (٦٠٥) الحجر : ٤٨. (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) البقرة : ١٦٧ (لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) الاعراف : ٤٠. (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) فاطر : ٣٦. (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) الفرقان : ٦٥ ، أي مقيما لازما. وقد دلت السنة المستفيضة أنه يخرج من النار من قال : لا إله إلا الله : وأحاديث الشفاعة (٦٠٦) صريحة في خروج عصاة الموحدين من النار ، وأن هذا حكم مختصّ بهم ، فلو خرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم ، ولم يختصّ الخروج بأهل الإيمان. وبقاء الجنة والنار ليس لذاتهما ، بل بإبقاء الله لهما (٦٠٧).
وقوله : وخلق لهما أهلا ـ قال تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِ
__________________
(٦٠٥) هذه الآية في أهل الجنة كما تقدم (ص ٤٢٦) فلعله أراد آية المائدة ٣٧ (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) ، وقد وقع هذا الوهم لابن القيم وغيره فانظر تعليقي على «رفع الاستار لإبطال ادلة القائلين بفناء النار» (ص).
(٦٠٦) آخر الجزء الأول من «مختصر الموصلي للصواعق المرسلة».
(٦٠٧) قلت : وهذه الأدلة قاطعة في بقاء النار وأهلها فيها من الكفار ، بخلاف أدلة القول الذي قبله ، فليس فيها شيء صريح ، كما بسطه الإمام الصنعاني في «رفع الاستار» ، فكن رجلا يعرف الحق بدليله وليس بالرجال ، فكل أحد يؤخذ من قوله ويرد الا النبي صلىاللهعليهوسلم.