فهذه العقوبة الأولى ، ثم قال : (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) الانعام : ٤٤ ، فهذه العقوبة الثانية.
فإن قيل : فهل كان يمكنهم أن يأتوا بالإخلاص والإنابة والمحبة له وحده ـ من غير أن يخلق ذلك في قلوبهم ويجعلهم مخلصين له منيبين له محبين له؟ أم ذلك محض جعله في قلوبهم وإلقائه فيها؟ قيل : لا ، بل هو محض منّته وفضله ، وهو من أعظم الخير الذي هو بيده ، والخير كله في يديه ، ولا يقدر أحد أن يأخذ من الخير إلا ما أعطاه ، ولا يتقي من الشر إلا ما وقاه.
فإن قيل : فإذا لم يخلق ذلك في قلوبهم ولم يوفقوا له ، ولا سبيل لهم إليه بأنفسهم ، عاد السؤال؟ وكان منعهم منه ظلما ، ولزمكم القول بأن العدل هو تصرف المالك في ملكه بما يشاء ، لا يسأل عما يفعل وهو يسألون؟ قيل : لا يكون سبحانه بمنعهم من ذلك ظالما ، وإنما يكون المانع ظالما إذا منع غيره حقّا لذلك الغير عليه ، وهذا هو الذي حرمه الربّ على نفسه ، وأوجب على نفسه خلافه. وأما اذا منع غيره ما ليس بحق له ، بل هو محض فضله ومنته عليه ـ لم يكن ظالما بمنعه ، فمنع الحق ظلم ، ومنع الفضل والإحسان عدل. وهو سبحانه العدل في منعه ، كما هو المحسن المنّان بعطائه.
فإن قيل : فإذا كان العطاء والتوفيق إحسانا ورحمة ، فهلا كان العمل له والغلبة ، كما أن رحمته تغلب غضبه؟ قيل : المقصود في هذا المقام بيان أن هذه العقوبة المترتبة على هذا المنع ، والمنع المستلزم للعقوبة ـ ليس بظلم ، بل هو محض العدل (٦١٧). وهذا سؤال عن الحكمة التي أوجبت تقديم العدل على الفضل في بعض المحالّ؟ وهلّا سوّى بين العباد في الفضل؟ وهذا السؤال حاصله : لم تفضّل على هذا ولم يتفضل على الآخر؟ وقد تولى الله سبحانه الجواب عنه بقوله : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الحديد : ٢١. وقوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ ، وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ ، يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الحديد : ٢٩. ولمّا سأله اليهود
__________________
(٦١٧) قال عفيفي : انظر ص ٣٣١ ج ١ من «مختصر الموصلي للصواعق المرسلة».