والنصارى عن تخصيص هذه الأمة بأجرين وإعطائهم هم أجرا أجرا ، قال : «هل ظلمتكم من حقكم شيئا؟ قالوا : لا ، قال : فذلك فضلي أوتيه من أشاء» (٦١٨) وليس في الحكمة اطلاع كل فرد من أفراد الناس على كمال حكمته في عطائه ومنعه ، بل إذا كشف الله عن بصيرة العبد ، حتى أبصر طرفا يسيرا من حكمته في خلقه ، وأمره وثوابه وعقابه ، وتخصيصه وحرمانه ، وتأمل أحوال محالّ ذلك ، استدلّ بما علمه على ما لم يعلمه. ولما استشكل أعداؤه المشركون هذا التخصيص ، قالوا : (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا)؟ قال تعالى مجيبا لهم : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) الانعام : ٥٣. فتأمل هذا الجواب (٦١٩) ، تر في ضمنه أنه سبحانه أعلم بالمحلّ الذي يصلح لغرس شجرة النعمة فتثمر بالشكر ، من المحل الذي لا يصلح لغرسها ، فلو غرست فيه لم تثمر ، فكان غرسها هناك ضائعا لا يليق بالحكمة ، كما قال تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) الانعام : ١٢٤.
فإن قيل : إذا حكمتم باستحالة الإيجاد من العبد ، فإذا لا فعل للعبد أصلا؟ قيل : العبد فاعل لفعله حقيقة ، [وله قدرة حقيقة]. قال تعالى : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) البقرة : ١٩٧. (فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) هود : ٣٦ ، وأمثال ذلك. وإذا ثبت كون العبد فاعلا ، فأفعاله نوعان : نوع يكون منه من غير اقتران قدرته وإرادته ، فيكون صفة له ولا يكون فعلا ، كحركات المرتعش. ونوع يكون منه مقارنا لإيجاد قدرته واختياره ، فيوصف بكونه صفة وفعلا وكسبا للعبد ، كالحركات الاختيارية. والله تعالى هو الذي جعل العبد فاعلا مختارا ، وهو الذي يقدر على ذلك وحده لا شريك له. ولهذا أنكر السلف الجبر ، فإن الجبر لا يكون إلا من عاجز ، فلا يكون إلّا مع الإكراه ، يقال : للأب [ولاية] إجبار البكر الصغيرة على النكاح (٦٢٠) ، وليس له إجبار الثيّب البالغ ، أي : ليس له أن يزوجها مكرهة. والله تعالى لا يوصف بالإجبار بهذا الاعتبار ، لأنه سبحانه خالق الإرادة
__________________
(٦١٨) البخاري في حديث لابن عمر أوله «انما بقاؤكم ..».
(٦١٩) قال عفيفي : انظر ص ٣٣١ ج ١ من «مختصر الموصلي».
(٦٢٠) قال عفيفي : انظر ص ٣٣٢ ج ١ من «مختصر الموصلي».