ومنهم من يقول : ما لا يطاق للعجز عنه لا يجوز تكليفه ، بخلاف ما لا يطاق للاشتغال بضده ، فإنه يجوز تكليفه. وهؤلاء موافقون للسلف والأئمة في المعنى ، لكن كونهم جعلوا ما يتركه العبد لا يطاق لكونه تاركا له مشتغلا بضده ـ بدعة في الشرع واللغة. فإن مضمونه أنّ فعل ما لا يفعله العبد لا يطيقه! وهم التزموا هذا ، لقولهم : إن الطاقة ـ التي هي الاستطاعة وهي القدرة ـ لا تكون إلا مع الفعل! فقالوا : كل من لم يفعل فعلا فإنه لا يطيقه! وهذا خلاف الكتاب والسنة وإجماع السلف ، وخلاف ما عليه عامة العقلاء ، كما تقدمت الإشارة إليه عند ذكر الاستطاعة.
وأما ما لا يكون إلا مقارنا للفعل ، فذلك ليس شرطا في التكليف ، مع أنه في الحقيقة [إنما] هناك إرادة الفعل. وقد يحتجون بقوله تعالى : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) هود : ٢٠ (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) الكهف : ٦٧ ، ٧٢ ، ٧٥. وليس في ذلك إرادة ما سمّوه استطاعة ، وهو ما لا يكون إلا مع الفعل ، فإن الله ذمّ هؤلاء على كونهم لا يستطيعون السمع ، ولو أراد بذلك المقارن لكان جميع الخلق لا يستطيعون السمع قبل السمع! فلم يكن لتخصيص هؤلاء بذلك معنى ، ولكن هؤلاء لبغضهم الحقّ وثقله عليهم ، إما حسدا لصاحبه ، وإما اتّباعا للهوى ـ لا يستطيعون السمع. وموسى عليهالسلام لا يستطيع الصبر ، لمخالفة ما يراه لظاهر الشرع ، وليس عنده منه علم. وهذه لغة العرب وسائر الأمم ، فمن يبغض غيره يقال : إنه لا يستطيع الإحسان إليه ، ومن يحبه يقال : إنه لا يستطيع عقوبته ، لشدة محبته له ، لا لعجزه عن عقوبته ، فيقال ذلك للمبالغة ، كما تقول (٦٢٥) : لأضربنه حتى يموت ، والمراد الضرب الشديد. وليس هذا عذرا ، فلو لم يأمر العباد إلا بما يهوونه لفسدت السموات والأرض ، قال تعالى : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) المؤمنون : ٧١.
وقوله : ولا يطيقون إلا ما كلفهم به ، الى آخر كلامه ـ أي : ولا يطيقون إلا ما أقدرهم عليه. وهذه الطاقة هي التي من نحو التوفيق ، لا التي من جهة الصحة
__________________
(٦٢٥) في الاصل : يقال
.