وتكون قوة الحب والإنابة ، والتوكل والخشية والمراقبة والخوف والرجاء ـ : جميعها متوجهة إليه ، ومتعلقة به ، بحيث يكون القلب عاكفا على محبته وتأليهه ، بل على إفراده بذلك ، واللسان محبوسا على ذكره ، والجوارح وقفا على طاعته. ولا ريب أن هذا مقدور في الجملة ، ولكن النفوس تشحّ به ، وهي في الشح على مراتب لا يحصيها إلا الله تعالى. وأكثر المطيعين تشحّ به نفسه من وجه ، وإن أتى به من وجه آخر. فأين الذي لا تقع منه إرادة تزاحم مراد الله وما يحبه منه؟ ومن [ذا] الذي لم يصدر منه خلاف ما خلق له ، ولو في وقت من الأوقات؟ فلو وضع الربّ سبحانه عدله على أهل سماواته وأرضه ، لعذبهم بعدله ، ولم يكن ظالما لهم. وغاية ما يقدّر ، توبة العبد من ذلك واعترافه ، وقبول التوبة محض فضله وإحسانه ، وإلا فلو عذّب عبده على جنايته لم يكن ظالما ولو قدّر أنه تاب منها. لكن أوجب على نفسه ـ بمقتضى فضله ورحمته ـ أنه لا يعذب من تاب ، وقد كتب على نفسه الرحمة ، فلا يسع الخلائق إلا رحمته وعفوه ، ولا يبلغ عمل أحد منهم أن ينجو به من النار ، أو يدخل الجنة ، كما قال أطوع الناس لربه ، وأفضلهم عملا ، وأشدّهم تعظيما لربه وإجلالا : «لن ينجي أحدا منكم عمله» ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : «ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» (٦٣٠) وسأله الصّديق دعاء يدعو به في صلاته ، فقال : «قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني ، إنك الغفور الرحيم» (٦٣١). فإذا كان هذا حال الصديق ، الذي هو أفضل الناس بعد الأنبياء والمرسلين ـ فما الظنّ بسواه؟ بل إنما صار صدّيقا بتوفيته هذا المقام حقه ، الذي يتضمن معرفة ربه ، وحقه وعظمته ، وما ينبغي له ، وما يستحقه على عبده ، ومعرفة تقصيره. فسحقا وبعدا لمن زعم أن المخلوق يستغني عن مغفرة ربه ولا يكون به حاجة إليها! وليس وراء هذا الجهل بالله وحقه غاية!! فإن لم يتسع فهمك لهذا ،
__________________
(٦٣٠) متفق عليه من حديث أبي هريرة ، وتقدم بنحوه الحديث (برقم ٦١٣).
(٦٣١) متفق عليه من حديث أبي بكر الصديق (انظر مسند أبي بكر الصديق طبع المكتب الاسلامي ص ١٢٢).