وأما الذين ذكرهم العلماء بخير من عقلاء المجانين ، فأولئك كان فيهم خير ، ثم زالت عقولهم. ومن علامة هؤلاء ، أنه إذا حصل في جنونهم نوع من الصّحو ، تكلموا بما كان في قلوبهم من الإيمان. ويهتدون بذلك في حال زوال عقلهم. بخلاف من كان قبل جنونه كافرا أو فاسقا ، لم يكن حدوث جنونه مزيلا لما ثبت من كفره أو فسقه. وكذلك من جنّ من المؤمنين المتقين ، يكون محشورا مع المؤمنين المتقين. وزوال العقل بجنون أو غيره ، [سواء] سمي صاحبه مولعا أو متولها لا يوجب مزيد حال ، [بل] حال صاحبه من الإيمان والتقوى يبقى على ما كان عليه من خير وشر ، لا أنه يزيده أو ينقصه ، ولكن جنونه يحرمه الزيادة من الخير ، كما أنه يمنع عقوبته على الشر ، ولا يمحو عنه ما كان عليه قبله.
وما يحصل لبعضهم عند سماع الأنغام المطربة ، من الهذيان ، والتكلم لبعض اللغات المخالفة للسانه المعروف منه!! فذلك شيطان يتكلم على لسانه ، كما يتكلم على لسان المصروع ، وذلك كله من الأحوال الشيطانية! وكيف يكون زوال العقل سببا أو شرطا أو تقربا الى ولاية الله ، كما يظنه كثير من أهل الضلال؟! حتى قال قائلهم :
هم معشر حلوا النظام وخرقوا ال |
|
سياج فلا فرض لديهم ولا نفل |
مجانين ، إلا أن سرّ جنونهم |
|
عزيز على أبوابه يسجد العقل |
وهذا كلام ضال ، بل كافر ، يظن أن [في] الجنون سرّا يسجد العقل على بابه!! لما رآه من بعض المجانين من نوع مكاشفة ، أو تصرف عجيب خارق للعادة ، ويكون ذلك سبب ما اقترن به من الشياطين ، كما يكون للسحرة والكهان! فيظن هذا الضال أن كل من خبل أو خرق عادة (٧٨٧) كان وليّا لله!! ومن اعتقد هذا فهو كافر ، فقد قال تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ. تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) الشعراء : ٢٢١ ـ ٢٢٢. فكل من تنزل عليه الشياطين لا بد أن يكون عنده كذب وفجور.
__________________
(٧٨٧) في الاصل : كاشف أو خرق العادة.