(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ، فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) الحج : ١٩ ، الآيات.
وأكثر الاختلاف الذي يؤول الى الأهواء بين الأمة ـ من القسم الأول ، وكذلك الى سفك الدماء واستباحة الأموال والعداوة والبغضاء. لأن إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق ، ولا تنصفها ، بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل ، والأخرى كذلك. ولذلك جعل الله مصدره البغي في قوله : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) البقرة : ٢١٣. لأن البغي مجاوزة الحد ، وذكر هذا في غير موضع من القرآن ليكون عبرة لهذه الأمة. وقريب من هذا الباب ما خرجاه في «الصحيحين» ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» (٧٩٨). فأمرهم بالإمساك عما لم يؤمروا به ، معللا بأن سبب هلاك الأولين إنما كان كثرة السؤال ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية.
ثم الاختلاف في الكتاب ، من الذين يقرّون به ـ على نوعين : أحدهما اختلاف في تنزيله ، والثاني اختلاف في تأويله. وكلاهما فيه إيمان ببعض دون بعض :
فالأول كاختلافهم في تكلم الله بالقرآن وتنزيله ، فطائفة قالت : هذا الكلام حصل بقدرته ومشيئته لكونه مخلوقا في غيره لم يقم به ، وطائفة قالت : بل هو صفة له قائم بذاته ليس بمخلوق ، لكنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته. وكل من الطائفتين جمعت في كلامها بين حق وباطل ، فآمنت ببعض الحق ، وكذّبت بما تقوله الأخرى من الحق ، وقد تقدمت الإشارة الى ذلك.
وأما الاختلاف في تأويله ، الذي يتضمن الإيمان ببعضه دون بعض ، فكثير ،
__________________
(٧٩٨) صحيح ، وهو مخرج في «الأحاديث الصحيحة» (٨٥٠) برواية الترمذي وتصحيحه ، وفي «الإرواء» (١٥٥ و ٣١٤) برواية الشيخين وغيرهما ، وقد ذكرت له فيه سبع طرق أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه.