وذكر الاصحاب في الفتاوى : أنه لو أوصى لعلماء بلده : لا يدخل المتكلمون ، وأوصى انسان أن يوقف من كتبه ما هو من كتب العلم ، فأفتى السلف أن يباع ما فيها من كتب الكلام. ذكر ذلك بمعناه في «الفتاوى الظهيرية».
فكيف يرام الوصول الى علم الاصول ، بغير اتباع ما جاء به الرسول؟! ولقد أحسن القائل :
أيّها المغتدي ليطلب علما |
|
كلّ علم عبد لعلم الرسول |
تطلب الفرع تصحّح أصلا |
|
كيف أغفلت علم أصل الاصول |
ونبينا صلىاللهعليهوسلم أوتي فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه ، فبعث بالعلوم الكلية والعلوم الاولية والاخروية على أتم الوجوه ، ولكن كلما ابتدع شخص بدعة اتسعوا في جوابها ، فلذلك صار كلام المتأخرين كثيرا ، قليل البركة ، بخلاف كلام المتقدمين ، فإنه قليل ، كثير البركة ، [لا] كما يقوله ضلال المتكلمين وجهلتهم : أن طريقة القوم من المنتسبين الى الفقه : انهم لم يتفرغوا لاستنباط الفقه وضبط قواعده وأحكامه اشتغالا منهم بغيره! والمتأخرون تفرغوا لذلك ، فهم أفقه!!
فكل هؤلاء محجوبون عن معرفة مقادير السلف ، وعمق علومهم ، وقلة تكلفهم ، وكمال بصائرهم. وتالله ما امتاز عنهم المتأخرون الا بالتكلف والاشتغال بالاطراف التي كانت همة القوم مراعاة أصولها ، وضبط قواعدها ، وشد معاقدها ، وهممهم مشمّرة الى المطالب العالية في كل شيء. فالمتأخرون (١١) في شأن ، والقوم في شأن آخر ، وقد جعل الله لكل شيء قدرا.
وقد شرح هذه العقيدة غير واحد من العلماء ، ولكن رأيت بعض الشارحين قد أصغى الى أهل الكلام المذموم ، واستمد منهم ، وتكلم بعباراتهم.
والسلف لم يكرهوا التكلم بالجوهر والجسم والعرض ونحو ذلك لمجرد كونه اصطلاحا جديدا على معان صحيحة ، كالاصطلاح على ألفاظ العلوم الصحيحة ، ولا كرهوا أيضا الدلالة على الحق والمحاجة لأهل الباطل ، بل كرهوه لاشتماله على
__________________
(١١) في الاصل : والمتأخرون.