تقرير توحيد الربوبية. فقال لهم : أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة ، تذهب فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها ، وتعود بنفسها ، فترسي بنفسها ، وتفرغ وترجع ، كل ذلك من غير أن يدبّرها أحد؟!! فقالوا : هذا محال لا يمكن أبدا! فقال لهم : اذا كان هذا محالا في سفينة ، فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله!! وتحكى هذه الحكاية أيضا عن غير أبي حنيفة.
فلو أقر رجل بتوحيد الربوبية ، الذي يقر به هؤلاء النظار ، ويفنى فيه كثير من أهل التصوف ، ويجعلونه غاية السالكين ، كما ذكره صاحب «منازل السائرين» وغيره ، وهو مع ذلك ان لم يعبد الله وحده ويتبرأ من عبادة ما سواه ـ كان مشركا من جنس أمثاله من المشركين.
والقرآن مملوء من تقرير هذا التوحيد وبيانه وضرب الامثال له. ومن ذلك أنه يقرر توحيد الربوبية ، ويبين انه لا خالق الا الله ، وأن ذلك مستلزم أن لا يعبد الا الله ، فيجعل الأول دليلا على الثاني ، اذ كانوا يسلّمون [في] الأول (٢٦) وينازعون في الثاني ، فيبين لهم سبحانه أنكم اذا كنتم تعلمون أنه لا خالق الا الله [وحده] ، وأنه هو الذي يأتي العباد بما ينفعهم ، ويدفع عنهم ما يضرهم ، لا شريك له في ذلك ، فلم تعبدون غيره ، وتجعلون معه آلهة اخرى؟
كقوله تعالى : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى ، آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) النمل : ٥٩ الآيات. يقول الله تعالى في آخر كل آية : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أي أإله مع الله فعل هذا؟ وهذا استفهام انكار ، يتضمن نفي ذلك ، وهم كانوا مقرين بأنه لم يفعل ذلك غير الله ، [فاحتج عليهم بذلك ، وليس المعنى أنه استفهام هل مع الله إله ، كما ظنه بعضهم ، لأن هذا المعنى لا يناسب سياق الكلام ، والقوم كانوا يجعلون مع الله] آلهة أخرى ، كما قال تعالى : (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ) الانعام : ١٩. وكانوا يقولون : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ
__________________
(٢٦) في الأصل : للأول.