الاختلاف ، والاختلاف يُوجب الفرقة ، والفرقة تُوجب الضعف ، والضعف يُوجب الذل ، والذلُّ يوجب زوال الدولة ، وزاول النعمة ، وهلاك الاُمَّة ... والتأريخ يحدِّثنا ، والعيان والوجدان يشهدان لنا شهادة حقٍ : أنَّه حيث تكون تلك السخائم والمآثم ، فهناك : فناء الأُمم ، وموت الهمم ، وفشل العزائم ، وتلاشي العناصر. هناك : الاستعباد والاستعمار ، والهلكة والبوار ، وتغلُّب الاجانب ، وسيطرة العدو ...
أمّا حيث تكون الآراء مجتمعة ، والاهواء مؤتلفة ، والقلوب متآلفة ، والايدي مترادفة ، والبصائر متناصرة ، والعزائم متوازرة ، فلا القلوب متضاغنة ، ولا الصدور متشاحنة ، ولا النفوس متدابرة ، ولا الأَيدي متخاذلة ، فهناك : العزُّ والبقاء ، والعافية والنعماء ، والقهر والقوة ، والملك والثروة ، والكرامة والسطوة ، هناك يجعل الله لهم من مضائق البلاء فرجاً ، ومن حلقات السوء مخرجاً ، ويبدلهم العزَّ مكان الذلِّ ، والأمن مكان الخوف. فيصبحوا ملوكاً حكّاماً ، وأئمة أعلاماً.
وليعتبر المسلمون اليوم بحال آبائهم بالامس ، كيف كانوا قبل الاسلام إخوان وبر ودبر ، وأبناء حل وترحال ، أذل الأُمم داراً ، واشقاهم قراراً ، لا جناح دعوة يأوون إلى كنفها ، ولا ظل وحدة يستظلّون بفيئها ، في أطواق بلاء ، وإطباق جهل ، من نيران حرب مشبوبة ، وغارات مشنونة ، إلى بنات موؤدة ، وأصنام معبودة ، وأرحام مقطوعة ، ودماء مهدورة (١).
__________________
(١) لعلَّ أبلغ الوصف وأروعه في رسم الصورة الحياتية التي كان عليها العرب قبل مبعث رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ما نُقل عن سيِّد البلغاء والمتكَلّمين علي بن أبي طالب عليهالسلام ، حيث قال : إنَّ الله تعالى بعثَ محمَّداً صلىاللهعليهوآله نذيراً َللعالمين ، وأميناً على التنزيل ، وأنتم معشرَ العرب على شرِّ دين ، وفي شرِّ دارٍ ، مُنيخونَ بين حجارةً خُشنِ ، وحياتٍ صُمٍّ ، تشربونَ الكَدِرَ ، وتأكلونَ الجشبَ ، وتسفكونَ دماءكم ، وتقطعون أرحامَكم. الاصنامُ فيكم منصوبة ، والأثام بكم معصوبة ... الخ ( الخطبة ٢٦ ).