ثم كيف أصبحوا بعد أنْ جمع الله بالإسلام كلمتهم ، وعقد بدين التوحيد وحدتهم ، ونشر على دعوة الحقِّ رايتهم. هنالك نشرت الرحمة عليهم جناح كرامتها ، وأسالت لهم جداول نعيمها ، حتى تربَّعت الايام بهم في ظل سلطان قاهر ، وآوتهم الوحدة إلى كنف عزِّ غالب ، وتعطَّفت الاُمور عليهم في ذرى ملك ثابت. فما عتموا أنْ أصبحوا ـ بعد ذلك الذلِّ وتلك الهنّات ـ حكاماً على العالمين ، وملوكاً في أطراف الارضين ، يملكون الأُمور على من كان يملكها عليهم ، ويُمضون الاحكام فيمن كان يُمضيها فيهم. لا تُغمز لهم قناة ، ولا تُقرع لهم صفات ... ذاك يوم كان للمسلمين وحدة جامعة ، واُخوة صادقة. يوم كانوا متحدين بحقيقة الوحدة وصحيح الاخاء. يوم كانت مصالح المسلمين مشتركة ، ومنافعهم متبادلة ، وعزائمهم متكافلة ، ولا يجد المسلم من أخيه فيما يهمه إلا كلُّ نصر ومعونة ، ورعاية وكفاية.
ثم دارت الدوائر ، ودالت الايام والايام دول ، وأصبح المسلم لا يجد من أخيه القريب ـ فضلاً عن البعيد ـ إلا القطيعة ـ بل الوقيعة ـ ولا يرتقب منه إلّا المخاوف ـ بل المتالف ـ ولا يحذر من عدوه الكافر أكثر من حذره من أخيه المسلم ، فكيف يُرجى ـ وحال المسلمين هذه ـ أنْ تقوم لهم قائمة ، أو تُشاد لهم دعامة.
وهيهات أنْ يسعدوا ما لم يتحدوا ، وهيهات أنْ يتحدوا ما لم يتساعدوا ... فيا أيُّها المسلمون لا تبلغون الاتحاد الذي بلغ به اباؤكم ما بلغوا بتزويق الالفاظ ، وتنميق العبارات ، أو نشر الخطب والمقالات ، وضجيج الصحف وعجيج الاقلام ... ليس الاتحاد الفاظاً فارغة ، واقوالاً بليغة وحِكَماً بالغة مهما بلغت من أوج البلاغة ، وشأو الفصاحة ... ملاك الاتحاد ، وحقيقة التوحيد هنا : صفاء نية ، واخلاص طوية ، واعمال جد ونشاط.