وانت وهم يعلمون أنَّ درة تاج مفاخر مصر ، وغرَّة جبين مآثرها هو : « الجامع الازهر » (١) وهو من مآثرهم ومنشآتهم. ذلك العهد الجليل ، الميمون النقيبة ،
__________________
(١) يُعد الجامع الأزهر ـ وذلك مما لا خلاف فيه ـ من المآثر الاسلامية الخالدة التي استطاعت ـ ورغم تقادم الدهور والعصورـ أنْ تبقى شاخصة ثابتة تحكي للاجيال مآثر الحقب والسنين التي شهدت اشراقة شمس الاسلام على بعض الدول والمدن رغم ما أحاط بهذا الدين العظيم من الكيد والمحاربة.
والجامع الازهر كان ثمرة واحدة من تلك الثمار المباركة والطيبة ، حيث اُنشأ في زمن الدولة الفاطمية ، واُسمي بالأزهر تبرُّكاً باسم سيِّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها آلاف التحية والسلام.
بنى هذا المسجد جوهر الصقلي ، قائد جند أبي تميم معد بعد عام من فتح الفاطميين لمصر واقامتهم لدولتهم فيها عام ( ٣٥٩ هـ ) ، وحيث تم بناؤه وأُقيمت أوّل صلاة جمعة رسمية فيه في يوم الجمعة سابع شهر رمضان عام ( ٣٦١ هـ ـ ٩٧٢ م ) ، وكانت تُقام قبل ذلك تارة في جامع عمرو ، وتارة في اًخرى في الجامع الطولوني.
بقي المسجد آنذاك محطة للمصلِّين وطلبة للمحصِّلين ، وحيث عُقدت بعد تأسيسه ببضع سنين أوَّل حلقة للدرس من قبل قاضي القضاة أبو الحسن علي بن النعمان القيرواني ، حيث قرأ آنذاك مختصر أبيه في فقه آل البيت عليهم السلام ، وكان ذلك في صفر عام ( ٣٦٥ هـ ـ ٩٧٥ م ).
بقي هذا المسجد يتلقى الرعايا والعناية من قِبل الحكّام الفاطميين ، وحيث زاد في بنائه المستنصر والحاكم ووسَّعا فيه ، وكان يقابلهم كثرة توافد الطلبة والدارسين على طلب العلم في اروقته ، والتزود من أساتذته ، وبقي هذا الحال ردحاً من الزمن ، حتى انقضت دولة الفاطميين وجاء صلاح الدين الأيوبي ، فشهر سيفه ـ وذلك ممّا يؤسف له ـ لمحاربة الشِّيعة وقتلهم تحت كلُّ حجر ومدر ، وطمس اثارهم ومآثرهم ، وكان نصيب الازهر من ذلك منع الخطبة فيه ، وقطع الكثير ممّا أوقفه عليه الحاكم ، واستمر ذلك ما يقارب القرن من الزمان حتى أمر الملك الظاهر بيبرس باعادة الخطبة فيه ، وشجع على التعليم في أروقته ، بل وزاد بعض الشيء في بنائه.
وهكذا فقد شهد الأزهر وطوال الحقب الماضية أشكالاً مختلفة من المد والجزر ، تأثراً بالأحداث المختلفة التي أحاطت به وبالعالم الاسلامي ، ولكنًه بقي أثراً خالداً شاهداً على تلك الحقبة الماضية التي تولى فيها الفاطميون حكم مصر وادارة شؤونها.