عنها أصلاً ورأساً ، وهذا كما أنه السرّ في مدحهم للفقراء وذمّهم للأغنياء فكذلك هو السرّ في هرب الأنبياء والأولياء من أمتعة الدنيا وإعراضهم عنها وترجيحه فقدها على وجودها ، فإنّ شأن أرباب الهداية من المقربين النزول عن مرتبتهم القصوى إلى درجة المستضعفين حتّى يتمكّنوا من الاهتداء بهم والاقتداء بسيرتهم كالمعزّم الحاذق الذي يغيّر بين يدي أولاده عن أخذ الحية لا لضعفه عنه بل لعلمه بأنّهم يتبعونه ولا يقدرون فيهلكون ، وهذا مما لا يخفى على أولي البصائر والأفهام من التأمّل في الآيات والأخبار الواردة في المقام.
فصل
لما كان الفقر والغنى متقابلين فكلّ مرتبة من الغنى يقابلها مرتبة من الفقر ، الا أنّ المرتبة الاولى لعد صدق الفقر عليها أصلاً يقابلها مطلق الحاجة الشاملة أيضاً لسائر مراتب الغنى وسائرها إضافية يصدق على كل منها الغنى والفقر باعتبارين.
وحيثما تبيّن لك أنها بأسرها من الفضائل والكمالات فما يقابلها بأسرها من نقائص الممكنات الا إنّك لما عرفت أنّه لايمكن صرف ما يتحقّق به الغنى من الممكنات فيما خلقت لأجلها من الخيرات الا بعد استخدام العاقة للشهوية الذي هوالغني الحقيقي ، كان الغني الحقيقي المذكور لمن لم يؤيّد بالنفس القدسية من الأنبياء والأئمّة متوقّفاً على الفقر أوّلاً أي من حين سلوك هذا المسلك إلى أن يوفّقه الله للحرّية فيكون الأصلح بحاله بعد ذلك هو الغني.
ثم إنك لما عرفت أنّ المذموم في كلّ ما عددناه من الأقسام هوالقصد إلى غايات الشر المطلوبة للقوّة الشهوية ومن البيّن انّ وجود المال وحصول الغنى به كما يترتّب عليه تلك الغايات ويصير من جملة أسبابها فكذا يترتّب على فقده وحصول الحاجة إليه غايات شرّ لاتحصى كالحرص والجزع