عمر نوح من غير مهلة وتأخير ، فإنّ العاقل إذا ملك جوهرة نفيسة فضاعت منه من غير فائدة بكى عليها ، ولو صار ضياعها سبباً لهلاكه اشتدّ بكاؤه عليها ، وكلّ ساعة من العمر من أنفس الجواهر الّتي لابدل لها حيث توصله إلى سعادة الأبد وتنقذه من شقاوة السرمد ، فإن ضيّعها في الغفلة خسر خسراناً مبيناً ، وإن صرفها في المعصية هلك هلاكاً عظيماً ، فلو لم يبك عليه كان مصيبته بهذا الجهل من أعظم المصائب حيث لايمكّنه من معرفتها لغفلته.
« الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ». (١)
نقل عن بعض العرفاء أنّ ملك الموت إذا ظهر للعبد أعلمه أنّه قد بقي من عمره ساعة لايستأخر عنها طرفة عين ، فيبدو له من الأسف ما لو كانت له الدنيا بحذافيرها لخرج منها على أن يضمّ إليها ساعة أخرى ليستعين بها على تدارك ما فاته فلا يجد إليه سبيلاً ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون ) (٢) ( ولن يؤخّر الله نفساً إذا جاء أجلها ) (٣).
ولذا قال تعالى : ( وليست التوبة للّذين يعملون السيّئات حتّى إذا حضر أحدهم الموت قال إنّي تبت الآن ) (٤) بل ( إنّما التوبة على الله للّذين يعلمون السوء بجهالة ثمّ يتوبون من قريب ) (٥) أي عن قرب عهد بالخطيئة بأن يتندّم عليها ويمحو عنه أثرها بحسنة يردفها بها قبل أن يتراكم الرين على القلب فلا يقبل المحو ، وتارك التوبة بالتسويف على خطر الرين فلا يمكنه الإمحاء وخطر الممات فلا يمكّن منه ، وذلك أنّ كلّ شهوة يتبعها العبد يرتفع منه ظلمة إلى قلبه كما يرتفع من نفسه ظلمة إلى المرآة الصّقيلة فإن تراكمت صار ريناً كما يصير بخار النفس مع تراكمه خبثاً. ( بل ران على قلوبهم
__________________
١ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ٤٢ ، شرح ابن ميثم على المائة كلمة : ص ٥٤.
٢ ـ سبأ : ٥٤.
٣ ـ المنافقون : ١١.
٤ ـ النساء : ١٨.
٥ ـ النساء : ١٨.