بل لايخلو في هذه الأخيرة عمّا هو أفضل الأعمال ، أي الذكر والفكر فيما يتناوله ، فإنّ فيه من العجائب ما لو فطن به علم أنّه أفضل من كثير من الأعمال ، بأن يتفكّر إمّا في عجائب نفعها وكيفية ارتباط قوام الحيوانات بها وتقدير الله لأسبابها وخلق الشهوات الباعثة إليها والآلات المسخّرة للشهوة فيها ، أو يتفكّر في وجه الاضطرار إليها وأنّها تؤذي (١) لو استغنى عنها ، فيرى نفسه مقهوراً مسخّراً لشهواتها ، أو يتفكّر في صنع صانعها ويترقّى منها إلى صفاته فيتذكّر لأبواب تنفتح عليه من عالم الملكوت هي أعلى مقامات العارفين والمحبّين ، إذ المحبّ إذا رأى صنع حبيبه نسي الصنعة واشتغل بالصانع.
وأمّا المحاسبة للنفس بعد العمل ، فقد قال الله تعالى : ( ولتنظر نفس ما قدّمت لغد ). (٢)
وقال صلىاللهعليهوآله : « حاسبوا قبل أن تحاسبوا ». (٣)
فكما ينبغي أن يكون للعبد ساعة قبل العمل في أوّل النهار يشارط نفسه ويوصيّها فكذا ينبغي أن يكون له في آخر النهار ساعة يطالب النفس فيها أو يحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها ، كما يفعل التجّار في آخر السنة أو الشهر أو اليوم مع شركائهم خوفاً من أن يفوتهم ما يورث الحسرة في فواته ، مع كون الحسرة قليلة ، والثمرة ضعيفة فانية ، فكيف لايحاسب فيما يتعلّق بأمر الآخرة الباقبة من السعادة والشقاوة الدائمة.
ومعنى المحاسبة أن ينظر إلى أصل المال والربح والخسران لينكشف له الزيادة والنقصان ، فإن حصل فضل استوفاه وشكره ، وإن خسر طالبه وضمّنه بتداركه في المستقبل ، فرأس مال العبد في دينه الفرائض وربحه النوافل وخسرانه المعاصي ، وموسم العمل جملة النهار والتاجر النفس
__________________
١ ـ كذا ، وفي المحجّة (٨ / ١٦٤) : ويلاحظون وجه الاضطرار إليها وبودّهم لو استغنوا عنه.
٢ ـ الحشر : ١٨.
٣ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ١٦٥ ، وفيه : « حاسبوا أنفسكم ».