ولقد تأمّلت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ، ولا تروي غليلا ، ورأيت أقرب الطرق طريق القرآن أقرأ في الإثبات : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (١). (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) (٢) وأقرأ في النفي : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٣) (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (٤) ، ثم قال : ومن جرّب مثل تجريبي عرف مثل معرفتي (٥) ، وكذا قال الشهرستاني (٦) رحمهالله : إنه لم يجد على الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم حيث قال :
لعمري لقد طفت المعاهد كلها |
|
وسيّرت طرفي بين تلك المعالم |
فلم أر إلا واضعا كف حائر |
|
على ذقن أو قارعا سنّ نادم (٧) |
وكذا قال أبو المعالي الجويني (٨) : يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به. وقال عند موته : لقد خضت البحر الخضمّ وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهوني عنه ، والآن فإن لم يتداركني ربي
__________________
(١) طه : ٥.
(٢) فاطر : ١٠.
(٣) الشورى : ١١.
(٤) طه : ١١٠.
(٥) انظر تاريخ الإسلام للإمام الذهبي ، الطبعة الحادية والستين ، ص ٢٠٥ ؛ وطبقات الشافعية ٢ / ٨٢ ـ ٨٣ ، لابن قاضي شهبة ؛ ودرء تعارض العقل والنقل ١ / ١٦٠.
(٦) هو محمد بن عبد الكريم الشهرستاني ، من فلاسفة الإسلام ، كان إماما في علم الكلام على مذهب الأشعري ، ونحل الأمم ومذاهب الفلاسفة ، ولد في شهرستان بين نيسابور وخوارزم ، وانتقل إلى بغداد سنة ٥١٠ وأقام بها ثلاثين سنة وعاد إلى بلده وتوفي فيها. قال ياقوت الحموي في وصفه :
الفيلسوف المتكلم صاحب التصانيف كان وافر الفضل كامل العقل ولو لا تخبّطه في الاعتقاد ومبالغته في نصرة مذاهب الفلاسفة والذبّ عنهم لكان هو الإمام ، توفي سنة ٥٤٨ ه. من تصانيفه «نهاية الإقدام في علم الكلام» ، وذكر في أوله البيتين الذين استشهد بهما المصنّف ولم يذكر عهدهما ، وقال غيره هما لأبي بكر محمد بن باجة المعروف بابن الصائغ الأندلسي. مترجم في السّير ٢٠ / رقم الترجمة ١٩٤.
(٧) وقد ردّ عليهما بيتين محمد بن إسماعيل الأمير كما وجدا بخطّه بهامش أصل درء تعارض العقل والنقل ١ / ١٥٩ هما :
لعلّك أهملت الطواف بمعهد |
|
الرسول ومن لاقاه في كل عام |
فما حار من يهدي بهدي محمد |
|
ولست تراه قارعا سنّ نادم |
(٨) شيخ الشافعية ، عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني النيسابوري المعروف بإمام الحرمين ، صاحب التصانيف في الأصول والفروع توفي سنة ٤٧٨ ، وانظر ترجمته في سير أعلام النبلاء ١٨ / ٤٦٨.