فتتهيأ لما يصلح لذلك من الأعمال ، وفي الخريف يصفو الهواء فترتفع الأمراض ويمتد الليل فيعمل فيه بعض الأعمال وتحسن فيه الزراعة ، وكل ذلك يأتي على تدريج ، وبقدر حتى لا يكون الانتقال دفعة واحدة إلى غير ذلك مما يطول لو ذكر.
فهذا مما يدلك على تدبير الحكيم العليم وسعة علمه ، ثم تفكر في تنقل الشمس في هذه البروج لإقامة دور السنة ، وهذا الدور هو الذي يجمع الأزمنة الأربعة : الشتاء والصيف والربيع والخريف وتسير فيها على التمام وفي القدر من دوران الشمس يدرك الغلات والثمار وتنتهي غاياتها ، ثم تعود فتستأنف وقت السير وبمسيرها تكمل السنة ويقوم حساب السنة على الصحة على التاريخ بتقدير الحكيم العليم.
تأمل إشراق الشمس على العالم كيف دبره تبارك وتعالى ، فإنها لو بزغت في موضع واحد لها لا تعدوه لما وصل شعاعها إلا إلى جهة واحدة وخلت عنها جميع الجهات فكانت الجبال والجدران تحجبها عنها ، فجعلها سبحانه تشرق بطلوعها أول النهار من المشرق فيعم شروقها ما يقابلها من جهة المغرب ، ثم لا تزال تدور وتغشى جهة بعد جهة حتى تنتهي إلى الغرب على ما استتر عنها أول النهار ، فلا يبقى موضع حتى يأخذ بقسطه منها ، ثم انظر إلى مقدار الليل والنهار كيف وقتهما سبحانه على ما فيه صلاح العالم فصارا بمقدار لو تجاوزاه لأضرا بكل ما على وجه الأرض من حيوان ونبات ، أما الحيوان فكان لا يهدأ ولا يقر ما دام يجد ضوء النهار وكانت البهائم لا تمسك عن الرعي فيئول أمرها إلى تلفها ، وأما النبات فتدوم عليه حرارة الشمس وتوهجها فيجف ويحترق ، وكذلك الليل لو امتد مقداره أيضا لكان معوقا لأصناف الحيوان عن الحركة والتصرف في طلب المعاش ، وتجمد الحرارة الطبيعية من النبات فيعفن ويفسد كالذي يحدث على النبات إذا كان الموضع لا تقع الشمس عليه.
باب في حكمة خلق القمر والكواكب
قال الله سبحانه وتعالى : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) [الفرقان : ٦١].
اعلم وفقك الله أن الله سبحانه وتعالى لما جعل الليل لبرد الهواء وهدوء الحيوان وسكونه ، فلم يجعله سبحانه ظلمة داجية لا ضياء فيها البتة فكان لا يمكن أن يعمل عملا فيه. وربما احتاج الناس إلى بعض أعمالهم في الليل إما لضرورة أو لضيق وقت عليهم من النهار ، وقد يقع ذلك لشدة حرارة أو لغيره من الأسباب ، فكان ضوء القمر في الليل من جملة ما نحتاج إليه في المعونة على ذلك فجعل طلوعه في بعض الليالي ، وينقص نوره عن نور الشمس وحرها لئلا ينشط الناس في العمل نشاطهم في النهار فينعدم ما به يتمتعون من الهدوء والقرار فيضر ذلك بهم ، وجعل في الكواكب جزء من النور يستعان به إذا لم يكن ضوء القمر ، وجعل في الكواكب زينة السماء وأنسا وانشراحا لأهل الأرض شيئا ما ألطف هذا التدبير ، وجعل الظلمة دولة ومدة للحاجة إليها. وجعل