أكل وشرب وتمهيد مراقد ، ورؤية ما يؤذيهم ومؤانسة مرضاهم وقصدها والعمل عليها برا وبحرا فيجدون بوجودها أنسا حتى كأن الشمس لم تغب عن أفقهم ، ويدفعون بها ضرر الثلوج والرياح الباردة ويستعينون بها في الحروب ومقاومة حصون لا تملك إلا بها ، فانظر ما أعظم قدر هذه النعمة التي جعل سبحانه حكمها بأيديهم إن شاؤوا خزنوها وإن شاؤوا أبرزوها.
باب في حكمة خلق الإنسان
قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢]. إلى آخر ما وصفه سبحانه.
اعلم وفقك الله تعالى أن الله عزوجل لما سبق في علمه خلق الخلق وبثهم في هذه الدار ، وتكليفهم فيها للبلوى والاختبار. خلقهم سبحانه متناسلين بعضهم من بعض ، فخلق سبحانه الذكر والأنثى وألقى في قلوبهم المحبة والدواعي حتى عجزوا عن الصبر وعدموا الحيلة في اجتناب الشهوة. فساقتهم الشهوة المفطورة في خلقهم إلى الاجتماع وجعل الفكرة تحرك عضوا مخصوصا به إلى إيداع الماء في القرار المكين الذي يخلق فيه الجنين ، فاجتمعت فيه النطفة من سائر البدن وخرجت ماء دافقا مندفعا من بين الصلب والترائب بحركة مخصوصة ، فانتقلت بسبب الإفلاج من باطن إلى باطن. فكانت مع انتقالها باقية على أصلها ، لأنها ماء مهين أدنى شيء يباشرها يفسدها وبغير مزاجها ، فهي ماء يختلط جميعه مستوية أجزاؤه لا تفاوت فيها بحال ، فخلق سبحانه منه الذكر والأنثى بعد نقلها من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى العظام ، ثم كساها اللحم وشدها بالأعصاب والأوتار ونسجها بالعروق ، وخلق الأعضاء وركبها فدور سبحانه الرأس وشق فيها السمع والبصر والأنف والفم وسائر المنافذ. فجعل العين للبصر ، ومن العجائب سر كونها مبصرة للأشياء ، وهو أمر يعجز عن شرح سره ، وركبها من سبع طبقات لكل طبقة صفة وهيئة مخصوصة بها ، فلو فقدت طبقة منها أو زالت لتعطلت عن الأبصار ، وانظر إلى هيئة الأشفار التي تحيط بها وما خلق فيها من سرعة الحركة لتقي العين مما يصل إليها مما يؤذيها من غبار وغيره ، فكانت الأشفار بمنزلة باب يفتح وقت الحاجة ويغلق في غير وقت ، ولما كان المقصود من الأشفار جمال العين والوجه جعل شعرها على قدر لا يزيد زيادة تضر بالعين ولا تنقص نقصا يضر بها ، وخلق في مائها ملوحة لتقطيع ما يقع فيها ، وجعل طرفيهما منخفضين عن وسطهما قليلا لينصرف ما يقع في العين لأحد الجانبين ، وجعل الحاجبين جمالا للوجه وسترا للعينين وشعرهما يشبه الأهداب في عدم الزيادة المشوهة ، وجعل شعر الرأس واللحية قابلا للزيادة والنقص ، فيفعل فيهما ما يقصد به الجمال من غير تشويه ، ثم انظر إلى الفم واللسان وما في ذلك من الحكم ، فجعل الشفتين سترا للفم كأنهما باب يغلق وقت ارتفاع الحاجة إلى فتحه ، وهو ستر على اللثة والأسنان مفيد للجمال ، فلو لا هما لتشوهت الخلق ، وهما معينان على الكلام واللسان للنطق والتعبير عما في ضمير الإنسان وتقليب الطعام وإلقائه تحت الأضراس حتى يستحكم