مضغه ، ويسهل ابتلاعه ، ثم جعل الأسنان أعدادا متفرقة ولم تكن عظما واحدا ، فإن أصاب بعضها ثلم انتفع بالباقي ، وجمع فيها بين النفع والجمال ، وجعل ما كان منها معكوسا زائد الشعب حتى تطول مدته مع الصف الذي تحته ، وجعلها صلبة ليست كعظام البدن لدعاء الحاجة إليها على الدوام ، وفي الأضراس كبر وتسريف لأجل الحاجة إلى درس الغذاء ، فإن المضغ هو الهضم الأول ، وجعلت الثنايا والأنياب لتقطيع الطعام وجمالا للفم فأحكم أصولها ، وحدد ضروسها ، وبيض لونها مع حمرة ما حولها ، متساوية الرؤوس متناسبة التركيب ، كأنها الدر المنظوم ، ثم انظر كيف خلق في الفم نداوة محبوسة لا تظهر إلا في وقت الحاجة إليها ، فلو ظهرت وسالت قبل ذلك لكان تشويها للإنسان ، فجعلت ليبل بها ما يمضغ من الطعام حتى يسهل تسويغه من غير عنت ولا ألم. فإذا فقد الأكل عدمت تلك النداوة الزائدة التي خلقت للترطيب ، وبقي منها ما يبل اللهوات والحلق لتصوير الكلام ولئلا يجف ، فإن جفافه مهلك للإنسان ، ثم انظر إلى رحمة الله ولطفه ، إذ جعل للآكل لذة الأكل فجعل الذوق في اللسان وغيره من أجزاء الفم ليعرف بالذوق ما يوافقه ويلائمه من الملذوذ فيجد في ذلك راحة في الطعام والشراب إذا دعت حاجة إلى تناوله وليجتنب الشيء الذي لا يوافقه ، ويعرف بذلك حد ما تصل الأشياء إليه في الحرارة والبرودة ، ثم إن الله تعالى شق السمع وأودعه رطوبة مرة يحفظ بها السمع من ضرر الدود ويقتل أكثر الهوام الذين يلجون السمع ، وحفظ الأذن بصدفة لتجمع الصوت فترده إلى صماخها. وجعل فيها زيادة حس لتحس بما يصل إليها مما يؤذيها من هوام وغيرها ، وجعل فيها تعويجات ليتطرد فيها الصوت ، ولتكثر حركة ما يدب فيها ويطول طريقه فيتنبه فيتأثر ويتنبه صاحبها من النوم ، ثم انظر إلى إدراكه المشمومات بواسطة ولوج الهواء ، وذلك سر لا يعلم حقيقته إلا الباري سبحانه إلى غير ذلك ، ثم انظر كيف رفع الأنف في وسط الوجه ، فأحسن شكله ، وفتح منخريه ، وجعل فيها حاسة الشم ليستدل باستنشاقه على روائح مطاعمه ومشاربه ، وليتنعم بالروائح العطرة ويجتنب الخبائث القذرة ، وليستنشق أيضا روح الحياة غذاء لقلبه وترويحا لحرارة باطنه ، ثم خلق الحنجرة وهيأها لخروج الأصوات ، ودور اللسان في الحركات والتقطيعات ، فينقطع الصوت في مجاري مختلفة تختلف بها الحروف ليشع طرق النطق ، وجعل الحنجرة مختلف الأشكال في الضيق والسعة والخشونة والملاسة وصلابة الجوهر ورخاوته والطول والقصر ، حتى اختلف بسبب ذلك الأصوات. فلم يتشابه صوتان ، كما خلق بين كل صورتين اختلافا فلم تشتبه صورتان ، بل يظهر بين كل صورتين فرقان ، حتى يميز السامع بعض الناس عن بعض بمجرد الصوت ، وكذلك يظهر بين كل شخصين فرقان ، وذلك لسر التعارف فإن الله تعالى لما خلق آدم وحواء خالف بين صورتيهما ، فخلق منهما خلقا جعله مخالفا لخلق أبيه وأمه ، ثم توالى الخلق كذلك لسر التعارف ثم انظر لخلق اليدين تهديان إلى جلب المقاصد ودفع المضار وكيف عرض الكف وقسم الأصابع الخمس ، وقسم الأصابع بأنامل ، وجعل الأربعة في