أخرى ، ثم وصل عظام الظهر بعظام الصدر وعظام الكتف وعظام اليدين وعظام العانة وعظام العجز وعظام الفخذين والساقين وأصابع الرجلين ، فجملة عدد العظام في بدن الإنسان مائتا عظم وثمانية وأربعون عظما سوى العظام الصغيرة التي حشي بها خلل المفاصل ، فانظر كيف خلق الباري سبحانه وتعالى ذلك كله من نطفة رقيقة سخيفة ، والمقصود من ذكر أعدادها تعظيم مدبرها وخالقها وكيف خلقها وخالف بين أشكالها وخصها بهذا القدر المخصوص بحيث لو ازداد فيها واحد كان وبالا ، واحتاج الإنسان إلى قلعه ولو نقص منها واحد لاحتاج الإنسان إلى جبره فجعل سبحانه وتعالى في هذا الخلق عبرة لأولي الأبصار وآيات بينات على عظمته وجلاله بتقديرها وتصويرها.
ثم انظر كيف خلق سبحانه آلات لتحريك العظام وهي العضلات. فخلق في بدن الإنسان خمسمائة وتسعة وعشرين عضلة ، والعضلة مركبة من لحم وعصب ورباط وأغشية وهي مختلفة المقادير والأشكال بحسب اختلاف مواضعها وحاجتها. فأربعة وعشرون منها لحركة العين وأجفانها بحيث لو نقصت منها واحدة اختل أمر العين ، وهكذا لكل عضو عضلات بعدد يخصه وقدر يوافقه ، وأما أمر الأعصاب والعروق والأوردة والشرايين ومنابتها وسعتها ، فأعجب من هذا وشرحه يطول ، ثم عجائب ما فيه من المعاني والصفات التي لا تدرك بالحواس أعظم ، ثم انظر إلى ما شرف به وخص في خلقه بأنه خلق ينتصب قائما ويستوي جالسا ويستقبل الأمور بيديه وجوارحه ويمكنه العلاج والعمل ولم يخلق مكبوبا على وجهه كعدة من الحيوانات ، إذ لو كان كذلك لما استطاع هذه الأعمال ، ثم انظر من حيث الجملة إلى ظاهر هذا الإنسان وباطنه فتجده مصنوعا صنعة بحكمة تقضي منها العجب ، وقد جعل سبحانه أعضاءه تامة بالغذاء ، والغذاء منوال عليها. لكنه تبارك وتعالى قدرها بمقادير لا يتعداها ، بل يقف عندها ولا يزيد عليها ، فإنها لو تزايدت بتوالي الغذاء عليها لعظمت أبدان بني آدم وثقلت عن الحركة ، وعطلت عن الصناعات اللطيفة ولا تناولت من الغذاء ما يناسبها ، ومن اللباس كذلك ، ومن المساكن مثل ذلك ، وكان من بليغ الحكمة وحسن التدبير وقوفها على هذا الحد المقدر رحمة من الله ورفقا بخلقه ، فإذا وجدت هذا كله صنعه الله تعالى من قطرة ماء ، فما ظنك بصنعته في ملكوت السماوات والأرض وشمسها وقمرها وكواكبها وما حكمته في أقدارها وأشكالها وأعدادها وأوضاعها واجتماع بعضها ، وافتراق بعضها ، واختلاف صورها ، وتفاوت مشارقها ومغاربها. فلا تظن أن ذرة في السماوات والأرض وسائر علم الله ينفك عن حكم ، بل ذلك مشتمل على عجائب وحكم لا يحيط بجميعها إلا الله سبحانه وتعالى. ألم تسمع قوله سبحانه وتعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) [النازعات : ٢٧]. إلى آخر ما نبه به ، وتأمل لو اجتمع الإنس والجن على أن يخلقوا للنطفة سمعا وبصرا وحياة لم يقدروا على ذلك ، فانظر كيف خلقها سبحانه في الأرحام ، وشكلها فأحسن تشكيلها ، وقدرها فأحسن تقديرها ، وصورها فأحسن تصويرها ، وقسم أجزاءها المتشابهة إلى أجزاء مختلفة ، فأحكم العظام في أرجائها وحسن أشكال أعضائها ، ورتب عروقها وأعصابها ودبر