فصل في شرف العلم
اعلم أن العلم تصور النفس الناطقة المطمئنة حقائق الأشياء وصورها المجردة عن المواد بأعيانها وكيفياتها وكمياتها وجواهرها وذواتها إن كانت مفردة ، والعالم هو المحيط المدرك المتصور ، والمعلوم هو ذات الشيء الذي ينتقش علمه في النفس ، وشرف العلم على قدر شرف معلومه ، ورتبة العالم تكون بحسب رتبة العلم. ولا شك أن أفضل المعلومات وأعلاها وأشرفها وأجلّها هو الله الصانع المبدع الحقّ الواحد ، فعلمه هو علم التوحيد أفضل العلوم وأجلها وأكملها ، وهذا العلم ضروري واجب تحصيله على جميع العقلاء كما قال صاحب الشرع عليه الصلاة والسلام : " طلب العلم فريضة على كل مسلم". أمر بالسفر في طلب هذا العلم. فقال صلىاللهعليهوسلم : " اطلبوا العلم ولو بالصّين". وعالم هذا العلم أفضل العلماء وبهذا السبب خصهم الله تعالى بالذكر في أجلّ المراتب ، فقال : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) [آل عمران : ١٨]. فعلماء علم التوحيد الإطلاق هم الأنبياء وبعدهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء ، وهذا العلم وإن كان شريفا في ذاته كاملا في نفسه لا ينفي سائر العلوم بل لا يحصل إلا بمقدمات كثيرة ، وتلك المقدمات لا تنتظم إلا من علوم شتى مثل علم السماوات والأفلاك وعلم جميع المصنوعات ، ويتولد عن علم التوحيد علوم أخر كما سنذكر أقسامها في مواضعها.
فاعلم أن العلم شريف بذاته من غير نظر إلى جهة المعلوم ، حتى أن علم السحر شريف بذاته وإن كان باطلا ، وذلك أن العلم ضد الجهل ، والجهل من لوازم الظلمة ، والظلمة من حيّز السكون ، والسكون قريب من العدم ، ويقع الباطل والضلالة في هذا القسم ، فإذا الجهل حكمه حكم العدم ، والعلم حكمه حكم الوجود ، والوجود خير من العدم ، والهداية والحق والنور كلها في سلك الوجود ، فإذا كان الوجود أعلى من العدم فالعلم أشرف من الجهل ، فإن الجهل مثل العمى والظلمة ، والعلم مثل البصر والنور ، (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ* وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ) [فاطر : ١٩ و ٢٠]. وصرح سبحانه بهذه الإشارات فقال : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩]. فإذا كان العلم خيرا من الجهل ، والجهل من لوازم الجسم ، والعلم من صفات النفس ، والنفس أشرف من الجسم ، وللعلم أقسام كثيرة نحصيها في فصل آخر. وللعالم في طلب العلم طرق عديدة نذكرها في فصل آخر. والآن لا يتعين عليك بعد معرفة فضل العلم إلا معرفة النفس التي هي لوح العلوم ومقرها ومحلها ، وذلك أن الجسم ليس بمحلّ للعلم لأن الأجسام متناهية ، ولا يتسع لكثرة العلوم بل لا يحتمل إلا النقوش والرقوم والنفس قابلة لجميع العلوم من غير ممانعة ولا مزاحمة وملال وزوال ، ونحن نتكلم في شرح النفس على سبيل الاختصار.
فصل في شرح النفس والروح الإنساني
اعلم أن الله تعالى خلق الإنسان من شيئين مختلفين : أحدهما : الجسم المظلم الكثيف الداخل تحت الكون والفساد المركب المؤلف الترابي الذي لا يتم أمره إلا بغيره ، والآخر : هو النفس الجوهري المفرد المنير المدرك الفاعل المحرك المتمم للآلات والأجسام ، والله تعالى ركب الجسد من أجزاء الغذاء ورباه