المثمرة أو كالجوهر الخارج من قعر البحر ، وإذا غلبت القوى البدنية على النفس يحتاج المتعلم إلى زيادة التعلم وطول المدة ، وتحمل المشقة والتعب وطلب الفائدة ، وإذا غلب نور العقل على أوصاف الحس يستغني الطالب بقليل التفكر عن كثرة التعلم ، فإن نفس القابل تجد من الفوائد بتفكر ساعة ما لا تجد نفس الجامد بتعلم سنة ، فإذن بعض الناس يحصلون العلوم بالتعلم وبعضهم بالتفكر ، والتعلم يحتاج إلى التفكر ، فإن الإنسان لا يقدر أن يتعلم جميع الأشياء الجزئيات والكليات وجميع المعلومات ، بل يتعلم شيئا ويستخرج بالتفكر من العلوم شيئا وأكثر العلوم النظرية والصنائع العلمية استخرجها نفوس الحكماء بصفاء ذهنهم ، وقوة فكرهم ، وحدّة حدسهم من غير زيادة تعلم وتحصيل ، ولو لا أن الإنسان يستخرج بالتفكر شيئا ، من معلومه الأوّل لكان يطول الأمر على الناس ولما كانت تزول ظلمة الجهل عن القلوب لأن النفس لا تقدر أن تتعلم جميع مهماتها الجزئية والكلية بالتعليم ، بل بعضها بالتحصيل وبعضها بالنظر كما يرى عادات الناس ، وبعضها يستخرج من ضميره بصفاء فكره ، وعلى هذا جرت عادة العلماء وتمهدت قواعد العلوم. حتى أن المهندس لا يتعلم جميع ما يحتاج إليه في طول عمره ، بل يتعلم كليات علمه وموضوعاته ، ثم بعد ذلك يستخرج ويقيس. وكذلك الطبيب لا يقدر أن يتعلم جزئيات أدواء الأشخاص وأدويتهم بل يتفكر في معلوماته الكلية. ويعالج كل شخص بحسب مزاجه. وكذلك المنجم يتعلم كليات النجوم ثم يتفكر ويحكم بالأحكام المختلفة. وكذلك الفقيه والأديب. وهكذا إلى بدائع الصنائع فواحد وضع آلة الضرب وهو العود بتفكره ، وآخر استخرج من تلك الآلة آلة أخرى. وكذلك جميع الصنائع البدنية والنفسانية أوائلها محصلة من التعلم والبواقي مستخرجة من التفكر ، وإذا انفتح باب الفكر على النفس علمت كيفية طريق التفكر وكيفية الرجوع بالحدس إلى المطلوب فينشرح قلبه وتنفتح بصيرته فيخرج ما في نفسه من القوة إلى الفعل من غير زيادة طلب وطول تعب.
الطريق الثاني : وهو التعليم الرباني على وجهين :
الأول : إلقاء الوحي وهو أن النفس إذا كملت ذاتها يزول عنها دنس الطبيعة ودرن الحرص والأمل الفانية. وتقبل بوجهها على بارئها ومنشئها وتتمسك بجود مبدعها وتعتمد على إفادته وفيض نوره ، والله تعالى بحسن عنايته يقبل على تلك النفس إقبالا كليّا. وينظر إليها نظرا إلهيا ويتخذ منها لوحا. ومن النفس الكلي قلما وينقش فيها جميع علومه ، ويصير العقل الكلي كالمعلم ، والنفس القدسية كالمتعلم ، فيحصل جميع العلوم لتلك النفس وينتقش فيها جميع الصور من غير تعلم وتفكر ، ومصداق هذا قوله تعالى لنبيّهصلىاللهعليهوسلم : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) [النساء : ١١٣]. الآية. فعلم الأنبياء أشرف مرتبة من جميع علوم الخلائق لأن محصوله عن الله تعالى بلا واسطة ووسيلة ، وبيان هذا يوجد في قصّة آدم عليهالسلام والملائكة ، فإنهم تعلموا طول عمرهم ، وحصلوا بفنون الطرق كثيرا من العلوم حتى صاروا أعلم المخلوقات وأعرف الموجودات ، وآدم عليهالسلام ما كان عالما لأنه ما تعلم وما رأى معلما فتفاخرت