بصبره على ذلك حظا في الآخرة ، فانظر إلى رحمة الله كيف توجد في العطاء والمنع.
ثم فكر في الأعضاء التي خلقت أفرادا وأزواجا ، وما في ذلك من الحكمة والصواب ، فالرأس مما خلق فردا ، وإن كثيرا من الحواس قد حواها رأس واحد ولو زاد عليه شيء كان ثقلا لا يحتاج إليه ، فإن كان قسمين فإن تكلم واحدهما بقي الآخر معطلا لا حاجة إليه ، وإن تكلم منهما جميعا بكلام واحد كان أحدهما فضلة لا يحتاج إليها ، وإن تكلم من أحدهما بخلاف ما يتكلم به من الآخر لم يدر السامع مراده من ذلك ، وأما الذي يأخذ به السامع هو ما كان واضحا ، واليدان خلقتا أزواجا ولم يكن للإنسان خير في أن يكون يلم بيد واحدة لاختلال ما يعالجه من الأمور ، فإنك ترى من شلت إحدى يديه ما يكون عنده من النقص ، وأن يكلف بشيء لم يحكمه ولا يبلغ ما يبلغ صاحب اليدين وحكمة الرجلين ظاهرة.
فكر في تهيئة آلات الصوت ، فالحنجرة كالأنبوبة لخروج الصوت واللسان والشفتان والأسنان لإصاغة الحروف والفم. ألا ترى أن من سقطت أسنانه أو أكثرها كيف يحصل الخلل في كلامه ، ثم انظر إلى ما في الحنجرة من المنفعة لسلوك النسيم منها إلى الرئة فتروح على الفؤاد بهذا النفس المتتابع ، وما في اللسان من تقليب الطعام وإعانته على تسويغ الطعام والشراب ، وما في الأسنان من المعونة أيضا ، ثم هي كالمسند للشفتين تمسكهما وتدعهما من داخل الفم ، وبالشفتين يرتشف الشراب حتى يكون ما يدخله إلى الجوف بقصد وبقدر ما يختاره الإنسان ، ثم هما على الفم كالباب.
فقد تبين أن كل عضو من هذه الأعضاء ينصرف إلى وجوه من المآرب وضروب من المصالح إن زاد أفسد وإن نقص أفسد ، فذلك تقدير العزيز العليم. فكر في الدماغ إذا كشف عنه فإنك تجده قد لف بعضه فوق بعض ليصونه من الأعراض وأطبقت عليه الجمجمة والشعر ستر لها وجمال ولتبعد عنها ما يؤذيها من حر وبرد وغير ذلك فحصن سبحانه وتعالى الدماغ هذا التحصين لعلمه بأنه معهم وأنه مستحق لذلك لكونه ينبوع الحس ، ثم انظر كيف غيب الفؤاد في جوف الصدر وكساه المدرعة التي هي غشاؤه وأتقنها وحصنه بالجوانح وما عليها من اللحم والعصب لشرفه وأن ذلك اللائق به ، ثم انظر كيف جعل في الحلق منفذين : أحدهما للصوت وهو الحلقوم الواصل إلى الرئة والآخر للغذاء وهو المريء الواصل إلى المعدة ، وجعل على الحلقوم طبقا يمنع الطعام أن يصل إليه ، ثم جعل الرئة مروحة الفؤاد لا تفتر ولا تخل تأخذ وترد بغير كلفة لئلا تنحصر الحرارة في القلب فتؤدي إلى التلف ، ثم ملأ الجو هواء لهذه المصلحة ولغيرها ، ثم انظر كيف جعل منافذ البول والغائط أسراحا يضبطها لكي لا يجري جريانا دائما فيفسد على الإنسان عيشته ، ثم انظر كيف جعل لحم الفخذين كثيرا كثيفا ليقي الإنسان من ألم الجلوس على الأرض كما يألم من الجلوس من نحل جسمه وقل لحمه إذا لم يكن بينه وبين الأرض حائل.
انظر لو كان ذكر الرجل مسترخيا أبدا كيف يصل الماء إلى موضع الخلق ولو كان منعظا أبدا كيف يكون حاله في تصرفاته وهو كذلك؟ بل جعله مستورا كأنه لم تخلق له شهوة ، ثم انظر أليس أنه من حسن التدبير في البناء أن يكون الخلاء في أستر موضع في الدار ، فلهذا اتخذ المنفذ