وأما الوجود الخيالي : فهو صورة هذه المحسوسات إذا غابت عن حسك فإنك تقدر على أن تخترع في خيالك صورة فيل وفرس ، وإن كنت مغمضا عينيك حتى كأنك تشاهده وهو موجود بكمال صورته في دماغك لا في الخارج.
وأما الوجود العقلي : فهو أن يكون للشيء روح وحقيقة ومعنى فيتلقى العقل مجرد معناه دون أن يثبت صورته في خيال أو حسّ أو خارج كاليد مثلا ، فإن لها صورة محسوسة ومتخيلة ولها معنى هو حقيقتها وهي القدرة على البطش ، والقدرة على البطش هي اليد العقلية ، وللقلم صورة ، ولكن حقيقته ما تنقش به العلوم ، وهذا يتلقاه العقل من غير أن يكون مقرونا بصورة قصب وخشب وغير ذلك من الصور الخيالية والحسية.
وأما الوجود الشبهي : فهو أن لا يكون نفس الشيء موجودا لا بصورته ولا بحقيقته ، لا في الخارج ، ولا في الحس ولا في الخيال ، ولا في العقل ، ولكن يكون الموجود شيئا آخر يشبهه في خاصة من خواصه ، وصفة من صفاته ، وستفهم هذا إذا ذكرت لك مثاله في التأويلات. فهذه مراتب وجود الأشياء.
فصل
اسمع الآن أمثلة هذه الدرجات في التأويلات. أما الوجود الذاتي فلا يحتاج إلى مثال وهو الذي يجري على الظاهر ولا يتأوّل ، وهو الوجود المطلق الحقيقي ، وذلك كإخبار الرسول صلىاللهعليهوسلم عن العرش والكرسي والسماوات السبع فإنه يجري على ظاهره ولا يتأوّل إذ هذه أجسام موجودة في أنفسها أدركت بالحسّ والخيال أو لم تدرك. وأما الوجود الحسّي فأمثلته في التأويلات كثيرة ، واقنع منها بمثالين :
أحدهما : قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : " يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح بين الجنّة والنّار" ، فإن من قام عنده البرهان على أن الموت عرض أو عدم عرض ، وأن قلب العرض جسما مستحيل غير مقدور ينزل الخبر على أن أهل القيامة يشاهدون ذلك ويعتقدون أنه الموت ، ويكون ذلك موجودا في حسّهم لا في الخارج ، ويكون سببا لحصول اليقين باليأس عن الموت بعد ذلك إذ المذبوح ميئوس منه. ومن يقم عنده هذا البرهان فعساه يعتقد أن نفس الموت ينقلب كبشا في ذاته ويذبح.
المثال الثاني : قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : " عرضت علي الجنّة في عرض هذا الحائط" ، من قام عنده البرهان على أن الأجسام لا تتداخل ، وأن الصغير لا يسع الكبير حمل ذلك على أن نفس الجنة لم تنتقل إلى الحائط ، لكن تمثل للحس صورتها في الحائط حتى كأنه يشاهدها ولا يمتنع أن يشاهد مثال شيء كبير في جرم صغير ، كما نشاهد السماء في مرآة صغيرة ويكون ذلك إبصارا مفارقا لمجرد تخيل صورة الجنة إذ تدرك التفرقة بين أن ترى صورة السماء في المرآة وبين أن تغمض عينيك فتدرك صورة السماء في المرآة على سبيل التخيل.