وأما الوجود الخيالي : فمثاله قوله صلىاللهعليهوسلم : " كأنّي أنظر إلى يونس بن متّى عليه عباءتان قطوانيّتان يلبّي وتجيبه الجبال والله تعالى يقول له : لبّيك يا يونس" ، والظاهر أن هذا إنباء عن تمثيل الصورة في خياله إذ كان وجود هذه الحالة سابقا على وجود رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقد انعدم ذلك فلم يكن موجودا في الحال ، ولا يبعد أن يقال أيضا ، تمثل هذا في حسه حتى صار يشاهده كما يشاهد النائم الصور ، ولكن قوله : كأني أنظر ، يشعر بأنه لم يكن حقيقة النظر بل كالنظر ، والغرض التفهيم بالمثال لا عين هذه الصورة وعلى الجملة فكل ما يتمثل في محل الخيال فيصور أن يتمثل في محل الإبصار فيكون ذلك مشاهدة وقل ما يتميز بالبرهان استحالة المشاهدة فيما يتصور فيه التخيل.
وأما الوجود العقلي فأمثلته كثيرة ، فاقنع منها بمثالين :
أحدهما : قوله صلىاللهعليهوسلم : " آخر من يخرج من النّار يعطى من الجنّة عشرة أمثال هذه الدّنيا" ، فإن ظاهر هذا يشير إلى أنه عشرة أمثالها بالطول والعرض والمساحة وهو التفاوت الحسّي والخيال ، ثم قد يتعجب فيقول : إن الجنة في السماء كما دلّت عليه ظواهر الأخبار ، فكيف تتسع السماء لعشرة أمثال الدنيا والسماء أيضا من الدنيات ، وقد يقطع المتأول هذا التعجب فيقول المراد به تفاوت معنوي عقلي لا حسّي ولا خيالي ، كما يقال مثلا هذه الجوهرة أضعاف الفرس أي في روح المالية ، ومعناها المدرك دون مساحتها المدركة بالحس والتخيل.
المثال الثاني : قوله صلىاللهعليهوسلم : " إنّ الله تعالى خمّر طينة آدم بيده أربعين صباحا" ، فقد أثبت لله تعالى يدا ومن قام عنده البرهان على استحالة يد الله تعالى هي جارحة محسوسة أو متخيلة ، فإنه يثبت لله سبحانه يدا روحانية عقلية. أعني أنه يثبت معنى اليد وحقيقتها وروحها دون صورتها. إن روح اليد ومعناها ما به يبطش ويفعل ويعطي ويمنع ، والله تعالى يعطي ويمنع بواسطة ملائكته ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " أوّل ما خلق الله العقل فقال بك أعطي وبك أمنع" ، ولا يمكن أن يكون المراد بذلك العقل عرضا كما يعتقده المتكلمون إذ لا يمكن أن يكون العرض أول مخلوق بل يكون عبارة عن ذات ملك من الملائكة يسمى عقلا من حيث يعقل الأشياء بجوهره وذاته من غير حاجة إلى تعليم ، وربما يسمى قلما باعتبار أنه تنقش به حقائق العلوم في ألواح قلوب الأنبياء والأولياء وسائر الملائكة وحيا وإلهاما فإنه قد ورد في حديث آخر : " إنّ أوّل ما خلق الله تعالى القلم". فإن لم يرجع ذلك إلى العقل تناقص الحديثان ، ويجوز أن يكون لشيء واحد أسماء كثيرة باعتبارات مختلفة فيسمى عقلا باعتبار ذاته وملكا باعتبار نسبته إلى الله تعالى في كونه واسطة بينه وبين الخلق ، وقلما باعتبار إضافته إلى ما يصدر منه من نقش العلوم بالإلهام والوحي ، كما يسمى جبريل روحا باعتبار ذاته وأمينا باعتبار ما أودع من الأسرار ، وذا مرة باعتبار قدرته ، وشديد القوى باعتبار كمال قوته ، ومكينا عند ذي العرش باعتبار قرب منزلته ، ومطاعا باعتبار كونه متبوعا في حق بعض الملائكة ، وهذا القائل يكون قد أثبت قلما ويدا عقليا لا حسيا وخياليا وكذلك من ذهب إلى أن اليد عبارة عن